هلا ارتقينا بصيامنا

Cover Image for هلا ارتقينا بصيامنا
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم تنزيله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الآية 182 سورة البقرة.

منطوق الآية الكريمة يفيد بأن الغاية من الصيام حصول التقوى خلال أيام الشهر الفضيل لعل حصولها في تلك الأيام المعدودات يسري، بعد هذا التدريب العملي الممتد نسبيا في الزمان، على باقي الأيام فتصبح هذه الصفة العظمى وتمسي ملازمة لقلب المؤمن والمؤمنة فتنضبط الجوارح بضابط الشرع فلا يصدر عنها إلا كل سلوك حسن يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعَدُ به الإنسان في نفسه ويُسعِدُ به غيرَه من أفراد المجتمع.

تُرى هل معظم تصرفاتنا في رمضان تعكس هذه الغاية المثلى؟ أم لا بد لنا من أن نراجع أنفسنا قبل فوات الأوان لنحسِّنَ من أخلاقنا ونُحقِّقَ ولو نسبة معتبرة مما نرجوه من الصيام كي نبَرِّئَ أنفسنا مما حذَّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) 1.

أربع سلوكيات مرتبطة في مخيلتنا الجماعية بشهر رمضان ينبغي لكل واحد منا معشر المسلمين المغاربة العمل على تجنبها (أو على الأقل السعي للتقليل منها في أفق التخلص منها بالكلية)، اثنتان تتعلقان بالفرد والأخريان تمَسَّان علاقتَهُ بغيره من الناس.

أما اللتان تهمان الفرد؛ فإحداهما الإسراف في الأكل في تناقض صارخ مع الحكمة من فرض الصيام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه عنه المقداد بن معد يكرب “ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” 2.

الحكمة من الصيام – بل من بين الحِكَم- الرجوع بالإنسان إلى الهدي النبوي في مسألة الطعام والشراب؛ فالمسلم لا يأكل حتى يجوع، وإذا أكل لا يشبع. وهذا الذي أقرته السنة النبوية منذ قرون أكده الطب الوقائي الحديث.

في حين أن واقعنا اليومي في رمضان غير هذا تماما. فالمشاهَدُ في أسواقنا، بل حتى على أبواب مساجدنا، هو الإقبال المفرط على شراء كل ما تراه العين من خضر وفواكه وحلويات، لايحُدُّ منه إلا ضيق ذات اليد. سلوك يوحي للنفس وكأن رمضان “عدوّ” تجب مواجهتُه بكثرة المؤونة، فتنتج عن هذه الآفة الاجتماعية آفات أشد فتكا بالعلاقات الاجتماعية التي يوليها ديننا الحنيف أيما اهتمام: احتكار السلع وغلاء الأسعار وعدم مراعاة مشاعر الفقراء والمحتاجين الذين لا يملكون القدرة على اقتناء هذه المعروضات من السلع والبضائع، خصوصا في غياب أو ضعف روح التكافل الاجتماعي المندوب شرعا وخلقا. روى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به” 3 

والثانية إضاعة الوقت فيما لا يفيد دنيا وآخرة؛ فرغم الظاهرة الإيجابية المرتبطة بالشهر الكريم والمتمثلة في إقبال الناس على المساجد في رمضان، إلا أنه يلاحظ أن كثيرا من المسلمين لا يغيرون من نمط حياتهم بما يستجيب وروحانية الشهر المعظم؛ فتجدهم يملؤون المقاهي معظم ليالي رمضان يسهرون على الدردشة وتصفح الهواتف ومشاهدة المباريات والأفلام، يمضون سويعات أعمارهم الثمينة في أشياء لا فائدة ترجى من ورائها، بل تضر بهم أكثر مما تنفع. فمن يقضي معظم ليله في المقاهي أو على جنبات الملاعب في شهر القرآن وفي أوقات تتنزل فيه الرحمات يفوِّتُ على نفسه فرصا عظيمة للتبتل والذكر وتلاوة القرآن. أما مردودية عمله الدنيوي فلاشك ستتدَنَّى في شهر عُرِفَ عند سلفنا الصالح بالجهاد والمعارك الكبرى، ولعل واقعة بدر الكبرى خير مثال على ذلك.

أما اللتان تمسان علاقة المسلم بأخيه المسلم بشكل مباشر وتضران بآصرة الرحم الإسلامية والإنسانية فهما:

 أ) الأنانية المبالغ فيها خاصة قبيل أذان المغرب؛ إذ تعرف شوارعنا وأزقتنا في هذا الوقت بالذات حركة سريعة يختلط فيها الماشي بالراكب، والكل مسرع وكأن خطرا داهما مقبل؛ الكل يسعى ليفِرَّ وينجُوَ بنفسه منه؛ فتجد المدارات في المدن مكتظة بالسيارات والدراجات وتتعالى أصوات المنبهات؛ الكل يصيح ويخاصم وينعت غيره بأشنع النعوت، ومرد ذلك كله إلى هذه الأنانية البغيضة الماحقة للتراحم في شهر الرحمة وللعفو والتسامح والتغاضي عن الهفوات. ويسأل بعضنا بعضا مستنكرا لماذا لا نرتقي وننتظم كغيرنا من الأمم؟

ب) التنمُّر والغضبية الزائدة وهذه نتيجة طبيعية لسابقتها. في مجتمعنا المغربي كثيرا ما نسمع عن “الترمضينة” أو “مرمضن” في إشارة غير صحيحة بتاتا لكون الصيام هو سبب لهذه الغضبية الملاحظة في سلوكيات بعض الناس في رمضان، رمضان شهر التقوى وشهر الرحمة وشهر التسامح وشهر العفو، لكن أنانيتنا وقلة صبرنا وحبنا لأنفسنا قبل كل شيء واعتدادنا بقوتنا وضخامة أجسادنا وجهورية أصواتنا هي السبب الحقيقي وراء ذلك.

فرمضان فرصة، قد لا تتكرفي حياة كل واحد منا، لنغير سلوكنا ونتقي ونرتقى ونضرب المثل لغيرنا من الناس فنكون حملة رسالة للعالمين، رسالة الإسلام العظيمة المنوط بنا تبليغها بأمر ربنا عز وجل في قوله سبحانه وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الأية 104 سورة آل عمران.


[1] رواه البخاري
[2] رواه الترمذي وحسنه
[3] أخرجه البزار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (8/170)، والطبراني (1/259).