وأنا أتابع -منذ السابع من أكتوبر الماضي- ما يجري على أرض العزّة غزّة وما ينبعث منها من أرج، وما يجود به رجالها ونساؤها من أرواح ومهج، وما يتمتّعون به من جلد وصبر ويقين أصاب الخانعين بالحرج، وما يلهجون به من ذكر ودعاء وتضرّع بالدمع امتزج، وما يتغنّون به من القرآن تجويدا بلا عوج، وما يحرجون به العدو من تقدّم نوعيّ على جميع الأصعدة مقدّمين الدلائل والبراهين والحجج، وما يظهرون من قوّة وقدرة على تمريغ أنف الاستكبار العالمي في يابسة وفي لجج، كلّ هذا جعلني أراجع ما كنت قرأته في كتب الإمام المجدّد عبد السلام ياسين عن مفهوم القومة في مشروعه التغييري -رحمه الله تعالى- بل جعلني أتساءل: هل سبقتنا المقاومة الإسلامية في فلسطين إلى مشروع الإمام؟
لقد بثّ الإمام -رحمه الله تعالى- في الأمّة روح القومة وبيّن معانيها ومبانيها، وما قبلها وما بعدها وما يلزم خلالها مستمدّا روحها من الجيل القرآني الفريد، ناسجا على شاكلة من سبقونا بإحسان، فكانوا لنا البرهان والعنوان.
فالقومة عنده -قبل أن تكون حركة تغييرية للواقع السياسي والاجتماعي- هي تغيير لما بالنفس سلوكا وفكرا. هي «تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي والاجتماعي» 1، هي -إذن- تبدأ في الأنفس قبل أن تنطلق نحو الآفاق. والتغيير المنتظرةُ بدايتُه وانطلاقتُه وإشراقتُه هو تغيير ما بأنفسنا. خبْرُ بواطن هذه النفس، وسوْقُها بالتربية ثمّ التربية ثمّ التربية إلى رياض الجنان، وحياض الإحسان، لتركع حقّا وصدقا بين يدي ربّها قائلة: «سبحان ربّي العظيم وبحمده»، وتخرّ ساجدة متبتّلة متضرّعة تناجي مولاها: «لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين». حينها فقط، يمكننا الحديث عن بداية التفكير في القومة.
فهي -إذن- قومة ذاتية، تعقبها قومة جماعية لمؤمنين صادقين جمعتهم الغاية الإحسانية ووحّدتهم الغاية الاستخلافية، فقاموا على قلب رجل واحد -باذلين الأنفُسَ والأنفَسَ- يريدون وجه الله، ولا شيء سواه.
«القومة تعني نهضة، ولا ينهض الجسم العليل المفكك. القومة تعني حركة إرادية، ولا يتحرك المشلول. القومة تعني تغييرا للمنكر، ولا يغير المنكر من لا يعرف المنكر في أسبابه، ودخائله، وماضيه، وحاضره، وحماته. القومة تعني جهادا منظما، ولا جهاد بدون تربية الأمة وتعبئتها للجهاد المرير الطويل» 2. هذه النهضة الكاملة تحتاج -بعد التربية الإحسانية- إلى القوّة التي أمرنا ربّنا بإعدادها حينما قال: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اَ۪سْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ اِ۬لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ اَ۬للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اُ۬للَّهُ يَعْلَمُهُمْۖ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَےْءٖ فِے سَبِيلِ اِ۬للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَۖ[سورة الأنفال – آية:61]. قوة فكرية، قوة اقتراحية، قوة تنظيمية، قوة تنفيذية، قوة علمية، قوة طبّية، قوة إعلامية، قوة تكنلوجية، قوة عسكرية، قوة سياسية. وأيّ ضعف في جانب من جوانب هذه القوة، أو خلل في التربية أو التنظيم قد يكون ثمنه باهظا.
فـ«يجب ألا يتحرك الركب في ميدان العمل قبل أن يتأكد من أن المنهاج محكم، وأنه لا خلل يخاف في الصّفّ نتيجة لنقص في التربية، أو لتفكّك في التنظيم، أو لغموض في الرؤية، أو لعجز عن الإنجاز والإتقان وتحمل المسؤولية.
تكون كارثة لا قدر الله إن تجمّع المؤمنون ردّا لفعل هذا الواقع المرفوض، ولم يكن لهم مشروع من ذات إيمانهم وشريعة ربهم. يمكن تصحيح الأخطاء العرضية التي لا يخلو منها عمل البشر إن كانت الأصول محفوظة، والمنهاج نبويا، دون أن تكون الكبوة سقطة نهائية. لكن إن بنينا على قواعد هشة من الحماس والغضب ضد الظلم المجردين عن الحافز الإيماني الذاتي فالجهود تذهب هدرا، ويطول بعدها شفاء الأمة بسوء تدبيرنا، تجتر مرارة خيبة أملها المعقود على الإسلام.” 3
لا بد -أوّلا- من تربية إيمانية تهب رجال القومة قوة إحسانية تسكن قلوبهم حتى يصيروا كالجبال، لا تثنيهم عن عزمهم الفواجع ولا ترهبهم الأهوال، ولا يعتريهم –عند الملاحم- الشكّ وسوء الظنّ بالعلي المتعال. رجال محسنون لسان حالهم يقول: «لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك… ما تخلّف منّا رجل واحد».
تربية إيمانية إحسانية تتخطى أسوار الطليعة المجاهدة وتتجاوزها إلى الأمّة المنكوبة المهزومة المستضعفة فتروي عطشها، وتلامس قلوب أبنائها وبناتها، فتستحثّهم وتنهضهم إلى الجهاد، حتى تسمع الواحد منهم يقول وقد نزلت به نائبة يشيب لها الوليد: “ينتقمون منّا بقتل أولادنا! دموعنا دموع إنسانية، وليست دموع جبن وانهيار، فليخسأ جيش الاحتلال”. 4 ويقول وهو يشيّع أحبّته والنّاس يعزّونه: “معلش كله فدا فلسطين”. وحينما يستشهد ابنه البكر حمزة –وبه كان يكنى- يقول: “لأجل هذا سميته حمزة…” تيمنا بسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
«(…) التربية بداية السير، فمتى كانت متينة على هدى من الله كان الجهاد ممكنا، وإن أخللنا في التربية فلا يصح أن ننتظر نصرا من الله. من المسلمين من تغلب حركيتهم تربيتهم، فسرعان ما ينقلب العمل الإسلامي في النية عملا حزبيا سياسيا في الفعل.
إنها خطوات إلى الموت في سبيل الله، فمهما كانت الهمّة الفردية لدى كل مؤمن لا ترتفع بصاحبها على كل العقبات نية، كان السبيل إلى الموت في سبيل الهوى. ومتى كانت القوة الجماعية لخلل في همم الأفراد لا تستهدف رضى الله، كان الفشل.» 5
لكن التربية الإيمانية وحدها غير كافية لنجاح القومة وبلوغها أهدافها المرجوّة، أي نعم هي القوة الأساس، لكن علينا إعداد القوة المادية كذلك. لذلك نحن مجبرون على تنظيم الصفّ، وتحرير المبادرات، ورصد الكفاءات، واكتشاف الطاقات، واحترام التخصصات، وتوزيع المسؤوليات، وتنويع القيادات، وخلق الفرص لمعرفة مدى استعداد الأفراد والجماعة للقومة المنتظرة يوم يأذن الملك الوهاب وتسنح الفرصة.
و«من إعداد القوة التي أمرنا بها أن يتعلم كل مؤمن لغة أجنبية أو لغات. وأن يقرأ من كتب علم السياسة والأيديولوجية المعاصرة ما به يستطيع أن يخاطب أهل العصر على مستوى تفكيرهم. هذا إلى جانب اختصاصه في العلم إن كان من أهل العلم، وفي المهنة أيا ما كانت حتى يبرز فيها. لا ننس أننا بحاجة لرجال الدعوة قبل قيام الدولة الإسلامية وبعده، وبحاجة لأطر الدولة ليديروا الاقتصاد والإدارة ومؤسسات الدولة وأجهزة الحكم، ليروضوها على الخضوع لأحكام الله. همّ الأمة لا يحمله الورع القاعد، لكن يحمله وينهض بمقتضياته الأقوياء بالعلم والخبرة، الأمناء بخوف الله والوفاء بعهده» 6.
القومة يلزمها التسلح بالقوة العلمية -بكل ما تحمله كلمة علم من معاني- علم بالشريعة، علم بالسياسة، علم بالإدارة، علم بتقنيات التواصل، علم بصناعة الأسلحة وتطويرها، علم بالطب، علم بالإعلام ووسائله وتقنياته، علم بفنّ الإلقاء ومخاطبة الجماهير. نحن ملزمون بالتسلّح بهذه العلوم كلّها –كلّ حسب تخصصه- وإلا كنّا لقمة سهلة للعدو.
وقد أشار الإمام –رحمه الله تعالى– إشارات لطيفة إلى هذه القوى التي تحتاجها القومة، فحثّ على اكتساب القوة الصناعية: «(…)إذ لا قوة بلا صناعة قوية، ولا رخَاء يرجى لأمة تأكل ما لا تحرث، وتشتري ولا تبيع، وتبقى بلهاء عزلاءَ وعدوها الحاقد يطوّر من أنواع الأسلحة المتقدمة ما يحتكره لنفسه ليصب علينا في بغداد نيرانا يوجهها الإلكترون، وليستنزف أموالنا بما يسوق إلينا من “خردة” عتيقة بالثمن الباهظ من المال والاستقلال والكرامة.
الدنيا اقتصاد وكفاية. القوة صناعة. التصنيع ضرورة. واكتساب وسائله اقتحام عقبات. في العالم مجال للأذكياء الفطنين المنبعثين بباعث سام، يستطيعون أن يصعدوا بعبقرية أبنائهم وبناتهم لاقتحام حصن الاحتكار العلومي التكنولوجي، وينفذوا إليه من ثغرات تعدد الجهات المستعدة للتعاون مع من يدفع، ومع من يحرص، ومع من يتابع.» 7
«التصنيع والتنمية في متناول المجاهدين إن شاء الله، يحققونه معركة بعد معركة. شرط التصنيع القدرة على المنافسة في السوق، وهذه مشروطة بتوحيد جهود المسلمين في العالم ليكونوا حجما له وزنه، وهذا مشروط بنجاح الحركة الإسلامية لأن الذي يوحّد المسلمين هو الإسلام، ونجاحها رهْنٌ باحترامها لقانون الله في النصر، ومسطرته في التغيير، وترتيبه النتائج على الأسباب. ينصر من يشاء وهو العزيز الوهاب.» 8
وحضّ على اكتساب القوّة الإعلامية: «ليس باستطاعة المسلمين أن ينافسوا العالم في صناعة الآلة الإلكترونية والعلوم عنهم نافرة، والصناعة عندهم معدومة داثرة، والتكنولوجيا مضبوطة من خارج مستوردة بمقدار، مُقننة موسوقة في الصناديق بجنب أكياس القمح المستورد. عجزت الأدمغة الغائبة والأخرى المهاجرة المشتتة عن توطين العلوم والتكنولوجيا في بلاد المسلمين.
كيف نرد القافلة عن سير الجمال الوَئيدِ مشيُها إلى مسار إسلامي شامل يكون الإعلام فيه والأدب والفن حُداءً إلى العمل الصالح، وتكون فيه للمسلمين كلمة مسموعة ونموذج حضاري مبثوث الصورة جذاب القسمات، وتكون فيه المسرحية والأغنية -بعد تطهيرها من رجس الشيطان- نداء من جو السماء إلى أهل الأرض ليوحدوا الله، ويكرموا الإنسان، ويتجافَوا عن دار الغرور، متمتعين بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، تاركين زينة الشيطان وتبذير الشياطين ودعارة الأدب الخليع.
في الأدب الإسلامي قديمه وحديثه، وفي مواهب الشباب الإسلامي الصاعد، وفي الطاقة الجمالية الإسلامية وتطلعاتها للنعيم المقيم في الجنة، وفرحها بنعم الله على الناس وفضله في الدنيا، وفي جدية آلام الأمة، وفي طلائع البشائر لتحقيق آمالها، مواضيع لتنويع أدب إسلامي إيجابي تطرد منه روح الأسى على ما فات، ودمعة الحزن على الواقع، وترنيمة الارتخاء في الشكوى والاعتذار.» 9
ودعا إلى اقتحام المجال السياسي لاكتساب القوة السياسية وما خلفها من قوة اقتصادية، ودراية بالتحالفات الجيوسياسية: «يريد المثالي البعيد عن الميدان أو المتحمس المنغمس في كتب السلف الصالح وأدبيات الرفض الإسلامي أن تسود شريعة الله. لكنه غير مستعد أن يلوث يده بطين البناء ولا أن يصيب ثوبهُ قطرة من رشاش الغسيل القذر. غير مستعد أن تلفحه شرارة أو يخدِش سمعته كلمة جارحة. فيبقى في عالم الكلام، والكلمة نظيفة. الكلمة سماوية، وأبراج الرفض والاستعلاء والتطهر سامية نبيلة. أما الفعل والجهاد ومزاولة الواقع ومكابدة النقائص فمزاحمة وعرَق ومكافحة أوساخ.
الفعل والجهاد ومزاولة النقائص تقتضي أن توطد العزم على التشمير عن ساعديك حتى المرفقين لتدخل الميدان، وتتعرض للتلوث بإفرازات البيئة السياسية، ولتنصبَّ عليك ملامات المستعجلين، واعتراضات المثاليين، ولتَجْبَهك صفاقة أهل السوق، ولِتساوِمَ وتُساوم لعقد صفقات السوق.
تصبح رب عائلة، قفة ربة البيت في يدك، والعيال منهم من يتضور جوعا، ومنهم من يشكو عريا، ومنهم من أضحى بلا مأوى. وأنت المسؤول لا غيْرك. تذهب أيام الراحة والمعارضة والرفض. فإما تضطلع بمسؤولياتك مقدرا المسافة الشاسعة بين المثال والواقع، والضرورة، والأولويات، ومراتب التكليف، وطاقة الوُسع.
أو تبقى منزَّها في طهر معارضتك، وتنديدك بالباطل، وشتمك لمنكر الواقع، ورفع قبضتك في وجه الشياطين الغادية براياتها.
إنه تعرض لغبار المعارك، وعجاج السياسة، وأوحال الاقتصاد. أو هو الركود في دعوة حالمة، ووعود مُسَوَّفَة. أو التوتر الدائم، واستهلاك الأنفس والدّين والمستقبل في عنف يائس، وغضب عاجز.
إنه اقتحام السوق السياسية الاقتصادية علما بأنها سوق لا مسجد، وأن قانون العرض والطلب جار فيها، وقانون تبادل المصالح مع القوى العالمية حاكم عليها، يفرض عليك أن تتعامل مع عدو لا مناص من التعامل معه.» 10
ولا ينسى –رحمه الله تعالى- قوة الكلمة وما لها من نفوذ، فيحفّز على تعلّم فنّ الإلقاء ومخاطبة الجماهير: «فيدرب جند الله على الخطابة بأصولها. ويوم تفتح للمؤمنين أجهزة الدولة يقدمون خطباءهم ليوجهوا الشعب ويرشدوه، ويوقظوه، ويبعثوه للجهاد، ويحتفظوا بخطب الجمعة وخطب المناسبات على حماسه حتى يصهر من هذا الحماس إرادة جهادية ثابتة في السير.
دعني من الخطب الركيكة لفظا، الباردة شكلا، الفارغة مضمونا، التي ألفناها في مجتمع الفتنة» 11
ويحضّنا -رحمه الله تعالى- على معرفة ما أمرنا الله به، ومعرفة كيفية إنجازه سيرا على المنهاج النبوي، مدركين طبيعة المرحلة التي نحن فيها: “من الضروريات معرفة ما أمرنا الله به، ومعرفة كيف أنجز رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ما أمروا به، ومعرفة طبيعة زماننا ومكاننا، وتكتلات أعدائنا وأسلحتهم، وأحلافهم، وتحركاتهم، ومعرفة ما لدينا من قوة رجال وقوة وسائل، ومعرفة الفرص المتاحة لنا، وبركة الساعة وهي فضل الله بهذه اليقظة في مطلع هذا القرن. وبعد المعرفة الإنجاز.
ما كان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجال تأمل بل كانوا رجال عمل صالح. في عشر سنوات غزى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين غزوة وبعث من السرايا ما يبلغ مع غزواته الأربعين أو الخمسين على خلاف في كل ذلك عمل دائب، جهاد مستمر. جند الله يؤمر ويأتمر، يقتل ويقتل، يرحل أكثر مما يستقر يبذل أكثر مما يغنم.
أمام جهادنا صعوبات تتمثل عقبات في الذهنيات، وعقبات في العادات، وعقبات في الأنانيات، الفردية منها والفئوية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية”. 12
ولا يغفل -رحمه الله تعالى- أن يذكّرنا بأن صلاح النيّة وحده لا يكفي لإخراج الأمّة من بين براثن المستكبرين الجاثمين عليها، القاطعين أنفاسَها، المجتمعين عليها كما يجتمع الأكلة على قصعتهم. الأمر يحتاج وضوحا في الخطوات، إحسانا في أداء المهمّات، وصدقا في تنفيذ المسؤوليات: «والقدرة على إنجاز مهماتنا التاريخية تريد منا:
- الوضوح في كل الخطوات: فلا نعمل في إطار مغلق على أنفسنا مهما كانت دواعي التستر. ولا نعمل في إطار مغلق عن الشعب، فإن الدعاية الداخلية والخارجية ضدنا تلفق علينا الأباطيل. يجب أن نعرف أننا مع الله ورسوله وبالتالي مع المستضعفين، نريد عدلا للناس كافة، وتقسيم أرزاق وتقسيم أموال، بعد إنتاج أرزاق وأموال.
- الإحسان: أي الدقة والإتقان فيما ننجزه من عمل. الدقة في أوصافه الإحسانية من حيث الإيمان. ومعيار هذا موافقته الأمر الله ورسوله. ثم الدقة في مواصفاته العملية ليكون ملائما للهدف المرجو منه دنيا وآخرة. يحب الله الإحسان، الإحسان بمعيار الصواب الديني ومعيار الصلاحية التقنية. فإن اكتفينا بصلاح النيات ولم نعط لأعمالنا ما يؤهلها لسد ثغرات العجز التكنولوجي، والإداري والتنظيمي، والسياسي، والاقتصادي، فيليق بنا أن ننزوي في ركن هادئ من أركان التاريخ. ولئن كان الانزواء ممكنا في حق الأفراد، فإن الأمة تحت شِقّي الرحى، فإما تحيا بعز الإسلام، وإمّا يدكّها العدو دكّا لا سمح الله! وعلى إحسان المؤمن العامل الصالحات لكل مهمة، وإحسان جند الله في كل الميادين، يتوقف مصير الأمة هنا ومصير المؤمن والمؤمنة عند الله. فعلى الإحسان نربي أجيالنا، وعليه ننظم صفوفنا.
- المسؤولية: غيرنا يعتمد على الكذب على الله والناس، يكذب على الشعب يقدم له الوعود الخلابة، ويكذب لا يصدق في إنجاز ما تكفل به إن كان رئيسا، أو ما أمر به إن كان مرؤوسا. ونحن مسؤولون أمام الله عز وجل، نعرف ذلك ونؤمن به ونعمل على ضوئه. إن كان غيرنا ينفعل مع الأحداث، فيكون تصرفه رد فعل زمني، فنحن مسؤولون أن نصمد إلى الهدف الذي من أجل تحقيقه نتحرك. لكي يصبح مشروعنا في التغيير عملا ناجحا يجب أن نصارح الشعب بحقائق الظلم الطبقي، وحقائق التخلف الحضاري والاقتصادي، وحقائق التبعية لشرق الجاهلية وغربها، ثم لا يكفي أن نفضح المسؤولين عن الفتنة ونشير بأصابيع الاتهام لماضي الفساد وحاضره، بل علينا أن نصارح أنفسنا ونصارح الشعب بالثمن الواجب دفعه لإصلاح ما أفسدوه. فإنه إن هونا على الشعب ما ينتظره من صبر وبذل (تضحيات)، ووقفنا بلوائح وعودنا إلى جانب عارضي الزور من الأحزاب السياسية، نكون تجار كلام.
إنما يكون تصرفنا مسؤولا إن فضلنا الصدق على الكذب، والوضوح على الغموض، والتخطيط على الارتجال، وقلنا لأنفسنا وللناس إن بناء الإسلام جزاؤه الجنة بعد الموت، وإن جهاد بناء الإسلام لا بد فيه من عدل في قسمة التضحيات إلى جانب العدل في قسمة الأرزاق» 13
وأخيرا نقول إنّ القومة «(…) نهوض الأمّة بقيادة طليعتها من جند الله لفرض العدل والإحسان على الواقع الكئيب المتميز بالتخلف والاستبداد في الحكم، والظلم في القسمة، والنفور العام عن دين الله، والجهل به، والإعراض عن الآخرة وعن الله عز وجل، والاستقالة من التشريف الإلهي والتكليف الذي عين هذه الأمة لحمل رسالة الحق للعالمين» 14، قومة تبدأ بتربية الرجال والنساء -على حدّ سواء- تربية إيمانية إحسانية تؤهّلهم للجهاد في سبيل الله -بعد إعداد القوّة اللازمة سياسيا واقتصاديا وصناعيا وإعلاميا- وتنتهي باستخلاف في الأرض يتحقق به موعود الله تعالى للمؤمنين: وَعَدَ اَ۬للَّهُ اُ۬لذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِے اِ۬لَارْضِ كَمَا اَ۪سْتَخْلَفَ اَ۬لذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اُ۬لذِے اِ۪رْتَض۪يٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمُۥٓ أَمْناٗۖ يَعْبُدُونَنِے لَا يُشْرِكُونَ بِے شَيْـٔاٗۖ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْفَٰسِقُونَۖ (53) وَأَقِيمُواْ اُ۬لصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ اُ۬لزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ اُ۬لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَۖ (54)[سورة النور – آية:53-54].
وإخواننا في غزّة -أرى والله أعلم- أنّهم قد أعطونا مثالا راقيا يجسّد كلّ ما دعا إليه الإمام رحمه الله تعالى، فهناك الذكر والقيام والقرآن واليقين، وهناك حبّ الله وحبّ رسوله الصادق الأمين، وهناك المحبّة الصادقة والأخوة الخالصة والتراحم بين المؤمنين، وهناك الشدّة على الأعداء الغاشمين، وهناك القوة اللازمة في كلّ الميادين لمجابهة الطغاة المستبدّين، مع التوكّل التّام على ربّ العالمين.
[2] عبد السلام ياسين، رجال القومة والإصلاح، ص 26.
[3] عبد السلام ياسين- المنهاج النبوي- العمل تنظيما – ص236.
[4] كلمات من ذهب قالها الصحفي المجاهد الصابر المحتسب وائل الدحدوح حين اغتال العدو الصهيوني زوجه و ابنته و حفيده و ابنيه.
[5] عبد السلام ياسين- المنهاج النبوي- فقرة عقبات- ص14.
[6] عبد السلام ياسين -المنهاج النبوي- فقرة فقه الواقع والاختصاص- ص49.
[7] عبد السلام ياسين- تنوير المومنات- الإنسان المصنّع- ص112.
[8] نفسه.
[9] عبد السلام ياسين- تنوير المومنات- عصر الهوائيات- ص138-139.
[10] عبد السلام ياسين- تنوير المومنات- بيئة و تلوث- ص126-127.
[11] عبد السلام ياسين- المنهاج النبوي- الشعبة الخامسة والأربعون : التعليم بالخطابة- ص228.
[12] عبد السلام ياسين- المنهاج النبوي- العمل تربية – ص233.
[13] عبد السلام ياسين- المنهاج النبوي- العمل تربية – ص234-235.
[14] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 500.