تنتاب المرء لحظات يستشيط فيها عقله وتنهار فيها أحاسيسه وتتداخل الأفكار في ذهنه وتضيع منه بوصلة الأيام. فيتيه في خلجات النفس بحثا عن جواب أو تفسير لسؤال يعلق بالفؤاد ويلتصق بالنفس؛
لما يقسو الوطن؟
سؤال يطفو على القلب بعد امتلائه غيضا جراء الظلم والجور المسلط على رقاب العباد.
سؤال ينافح ويصارع مشاعر الوطنية التي رضعنا لبانها عن آبائنا وأجدادنا، بل يقاضي هذه المشاعر ويلومها. وكأني بهذا السؤال يتبعني فأمشي فيمشي ورائي فأهرول فيسارع للحاقي فأركض وأركض هربا من ملاقاته عساي أجد الجواب قبل اللقاء.
أليس الوطن أول هواء ولج الرئتين وأول سماء فتنت المقلتين وأول تراب لامس الراحتين، فلعبنا في أحيائه وشببنا في مدارسه وزقاقه وطلبنا الرزق فيه؟
أليس الوطن بنيانا يحتاج سواعد أبنائه كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم ؟
أليس الوطن حديقة غناء فيها جميل الزهر ورخيصه ؟
أليس الوطن ركنا حصينا يلجأ إليه أبناؤه كلما آلمتهم نائبة أو نزلت بهم نازلة؟
أليس الوطن رحمة إلهية نعيش في كنفها ونستظل بظلها؟
أليس هذا ما تعلمناه وعلمناه وكتبناه وأنشدناه ؟
قالوا لنا الوطن لا يخلص كل الإخلاص إلا إذا كانت لأبنائه اليد الطولى في دواليب عمارته وصناعته وتجارته، فسعينا وكددنا وتعلمنا ولازلنا ….
فكيف ينقلب كل هذا ؟ فيتلوث الهواء ويصعب استنشاقه، وتسود السماء وتمطر لهبا، وتتوحش الحديقة وتطرد براعمها في الأكمام، وتصبح الرحمة قسوة فيدب دبيب الظلم في الأرجاء، ثم يضيع العدل و تنفصم العروة و تطغى الأنانيات وتخرس الأصوات ولا يعلو إلا صوت القهر و الآهات .
فيا وطن إن كنت لنا مختبرا فاعلم أننا لك أوفياء، وإن كنت لنا رافضا ففي أحضانك تعلمنا الأنفة و الإباء، فلو جاز لك الرفض لجاز لنا العقوق؛ وأنًى يكون ذلك.
لن نستسلم ولن نخنع وسنقلق مضاجع طغاتك ونطيل سهادهم، ونجعل القلوبهم الموصدة وجلة، حتى تلين لنا وفي حنانك ننعم وبخيراتك نغنم .
فيا طغاة الوطن كفاكم للعباد قهرا وظلما وللوطن غدرا وطعنا فنحن هاهنا قائمون وعن كرامة وطننا مدافعون.