في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شكلت الهجرة من مكة إلى المدينة واحدة من الخطوات البارزة في إقبال المسلمين على الله تعالى ورسوله ونصرة دينهم، فكان انتقالهم من مكان إلى مكان استجابة لنداء الله تعالى ووَلاية لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، انتقالا إلى مجمع حزب الله بكل ما يحمله هذا المجمع من معاني الجهاد والرباط والتآخي والتحاب في الله والإذعان لأمره جل وعلا.
وقد شكلت تلك الأواصر الربانية الحانية ما بين المهاجرين والأنصار والتي ترسخت إلى أن بلغت التوريث لولا فصل شرع الله تعالى في الأمر وإعطاء أولويته لذوي الأرحام، شكلت كل هذه المعاني الرباط الوثيق والحصن الحصين اللذين وضعا اللبنة الأساس لبناء دولة القرآن على أسس متينة قوامها حب الله والمحبة في الله، وهو ما جسده لنا المهاجرون حين زهدوا في أموالهم وأولادهم وأنفسهم واستجابوا لأمر الله تعالى ورسوله في الهجرة إليه، وجسده لنا الأنصار حيث كانوا خير منزّل لأمر الله تعالى في الوَلاية والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (سورة التوبة 71)، ونعلم كيف كان التآخي بينهم وبين المهاجرين والتآسي بينهم في الأموال والأنفس، فتحققت الوَلاية تحققا فعليا لكل مجنّد تجنَّد للهجرة أو النصرة بما لهما من معنى جهادي يتطلع لتربية جند الله المرابط المجاهد لنصرة المستضعفين.
وهنا يطرح السؤال: هل انقطعت الهجرة؟ ونعلم تلازم انقطاع الهجرة والتوبة وما مَنَّ الله عز وجل به على عباده من مدد بفتح باب التوبة حتى قيام الساعة. لكن حكمة الله عز وجل قضت لهذا الدين أن يُحَيَّن كلما تجددت معالم الأحوال والأزمان ومعارف العقول والأذهان، فقال صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا”، وقال أيضا: “… المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”.
إذن ففي الوقت الذي كانت فيه الهجرة انتقالا من مكان إلى آخر بأمر أنزله الله تعالى نصرة لدينه وانحيازا لرسوله صلى الله عليه وسلم وترسيخا لمعاني وَلاية المسلمين كافة وكذا تعبئة لجند الله في معقل حصين، كانت ولا تزال انتقالا للمسلم الراكن الساكن من رعوية خموله واستكانته إلى هبته القلبية لنصرة المستضعفين وقبلا سعيا منه لنشدان خلاصه الفردي.
فمن نشد الهجرة فقد حظي بشرف الصحبة ومن ناصر وجاهد وأخلص وتفانى فقد تحرر من ربقة الأعرابية بما تحمله هذه الكلمة من معاني الاستقرار على حاشية المجتمع المسلم بما له من تجليات الإيمان الحق، يقول جل من قائل: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. تحرر من ربقة الأعرابية إلى شرف الإسلام.
فالهجرة إذن كانت هجرة إلى الله ورسوله في حياته صلى الله عليه وسلم بما هي جهاد وصدق وولاء، وهي الآن هجرة إلى جماعة مسلمة مجاهدة مناهضة للظلم والجور ولأعداء الله ودين الله، فمن جاء إليها مجاهدا ممانعا ناصرا لدينه ذاكرا صائما قائما عفي من مراتب الأعرابية ونال شرف الإسلام والهجرة.