ما يحدث في كيان الاحتلال هذه الأيام ليس أزمة طارئة، بل هو القشة التي تقصم ظهر البعير قريبا إن شاء الله، فهو مؤشر على أزمة مزمنة خانقة يعيشها الكيان الصهيوني، على كافة المستويات، مثل تنامي حدة التناقضات الاجتماعية، والهجرة المضادة، والفساد المالي والإداري، وانحسار حضور العقيدة الجامعة، وتفجر الصراع بين أرباب المصالح والطبقات والأجهزة، وسيطرة مد الأصولية التلمودية السياسية، مع تسجيل ارتفاع في معدلات البطالة والجريمة، وكذلك تراجع الدعم الدولي السياسي والشعبي والمالي، وهي أزمات مزمنة تزداد حدة كل يوم ويحاول صانعو القرار التغطية عليها بافتعال أزمات خارجية للتنفيس أو لإحداث التعبئة الشاملة بترهيب المواطنين بالحرب والإرهاب أو التهديد النووي الإيراني، أو فبركة عمليات عسكرية أو مخابراتية عدوانية محدودة الأثر والنتائج على غزة أو جنوب لبنان أو حتى المراهنة على توسيع بقعة التطبيع التي تطفو كبقعة زيت لا جذور ولا عمق لها رغم الزخم الإعلامي والسياسي الذي يواكبها….
هذه الأزمة التي تعبر عن نفسها في شكل صراع حول الديمقراطية واستقلالية القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، تخفي في العمق هلعا لدى المواطن الصهيوني من تغول شخصيات يمينية مسيطرة مجنونة مغامرة قد تجره إلى المجهول، وهذا ما يفسر حالة الاستنفار القصوى داخليا وخارجيا ميدانيا وسياسيا، فالمحكمة العليا والقضاء هو ما يمثل، بحسب الرؤية الإسرائيلية “المعتدلة”، درع المجتمع مقابل عصابة من السياسيين والعسكريين الفاسدين المدانين قضائيا في ملفات فساد مالي وتهرب ضريبي وسرقات واختلاسات ورشاوي..
وهو تخوف أيضا تتشاطره العواصم الأوروبية وواشنطن، فزعماء الصهاينة من اليمنيين المتطرفين، خرجوا عن السيطرة، وانقلبوا على قواعد اللعبة المرسومة، لهذا ليس مستغربا أن تتداعى هذه العواصم بسرعة للتعبير عن قلقها من خطوات نتانياهو وتدعو إلى ضرورة العودة إلى الصواب، وبالمقابل أيضا ليس مستغربا أن تروج اتهامات من حكومة نتانياهو لواشنطن بدعم وتمويل الاحتجاجات، التي يعرفها الكيان الصهيوني مؤخرا كما نشرت صحف عربية وأمريكية، وهي اتهامات لها ما يؤكدها، فهناك على الأقل مؤشرين مهمين:
أولهما: الموقف الأمريكي الداعم للاحتجاجات والذي جاء سريعا، وتفاعل الممثلين الدبلوماسيين “الصهاينة” في واشنطن وتقديمهم الاستقالة أو التهديد بها، وهو أمر له دلالته ورمزيته.
ثانيها: سرعة التحرك والتنسيق في حركات الاحتجاج بين النخب السياسية المعارضة والإعلام والتحرك الميداني، وهو ما يشي بوجود غرفة عمليات مركزية من المستوى الرفيع.
فهل يمكن اعتبار هذا تحول في موقف الغرب والإدارة الأمريكية الداعم للكيان الصهيوني، بكل تأكيد كلا، لكنها “شدة أذن” موجهة لنتانياهو وحلفائه من اليمين المتطرف، الذي يبدو أنه يحاول الخروج من بيت الطاعة الأمريكية، وصار يهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة في تقدير الرئيس بايدن السياسي والدبلوماسي المخضرم، خلافا لسياسة ترامب اليمينية المتطرفة التي أطلقت الحبل على الغارب للصهاينة، وقد ظهرت حركة التمرد في موضوعين هامين أحرجا أمريكا كثيرا، وهددا بخلط أوراقها في المنطقة أي الشرق الأوسط والخليج:
- أولها الإصرار الصهيوني على سياسة الاستيطان وتجريف السلطة وضرب مصداقيتها وتجميد مسلسل السلام المزعوم والاستعمال المفرط وغير المبرر للعنف ضد الشعب الفلسطيني.
- ثانيها الملف الإيراني والتهديد باستعمال القوة المباشرة ضد إيران من طرف الكيان الصهيوني باستهداف مواقع نووية إيرانية، ضدا على توجه الإدارة الأمريكية الرامي إلى التهدئة وتغليب خيار المفاوضات الدبلوماسية.
هذا الانفلات الصهيوني ومحاولة الخروج من العباءة الأمريكية، أربك حسابات بايدن الذي يحاول ترتيب الأوراق في المنطقة، خاصة بعد بوادر المصالحة الإيرانية السعودية وبداية تشكل محور مستقبلي روسي إيراني صيني سعودي، لهذا كان من الضروري كبح جماح التيارات الراديكالية في الكيان الصهيوني وفرملة مغامرات وطموحات نتانياهو وحلفائه التوسعية في المنطقة، التي عبر عنها وزير المالية بشكل واضح وفج
وتعبر عنها سياسة الاستيطان واقعيا، فوزير المالية الإسرائيلي “بتسلئيل سموتريتش” عبر بكل وضوح في باريس “عاصمة الحرية والأنوار” عن توجه يميني جديد يهدم كل التراكم التاريخي والسياسي في مسار الصراع العربي الصهيوني، وفي مسارات التسوية، بإنكار وجود شعب فلسطيني، وقد وجه خطابه مباشرة للبيت الأبيض “إنه لا يوجد شعب فلسطيني وإن هذا ليس إلا اختراع عمره أقل من مائة عام”، وأن “العرب اخترعوا شعبا وهميا من أجل التصدي للحركة الصهيونية، وأن هذه الحقيقة التاريخية يجب أن تُسمع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن”.
ومثل هذه التصريحات لم تكن مستبعدة من هذا التيار اليميني المتطرف، بل هي تعد وفاء بالتزامات ووعود انتخابية تعهد بها، فحزب “الصهيونية الدينية” المشكل للائتلاف الحكومي، الذي رفع شعار “استيطان وسيادة” في حملته الانتخابية ونجح ستة من مرشحيه في الوصول إلى الكنيست، وبعد ذلك إلى الحكومة خاصة زعيميه بتسلئيل سموتريتش وزير المالية الحالي، وإيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، لا يخفي رفضه لموقف الإدارة الأمريكية من الاستيطان، بل إنه دفع الكنيست في 21 مارس 2023 إلى إلغاء قانون فك الارتباط لعام 2005، الذي التزمت بموجبه “إسرائيل” بالانسحاب وإخلاء المستوطنات في غزة وشمال الضفة الغربية حول جنين ونابلس، وجعلها مناطق عسكرية، ومنع الإسرائيليين من دخولها، وهو ما اعتبره البيت الأبيض على لسان نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل عقبة أمام السلام وتحقيق حل الدولتين وإخلالا بالاتفاقات المبرمة بين واشنطن وتل أبيب، ورأى أن التمادي في الاستيطان يتسبب “في تصاعد التوترات، واعتبر قرار الكنيست عملية استفزازية”.
لذا فأمريكا تحاول الحد من مفاجآت الحكومات الأمنية المصغرة، لا سيما بعد سيطرتها على الكنيسيت، ومحاولة التمرد على رقابة المحكمة العليا، بتبني خطة لإصلاحات القضاء الذي يجعل يد المحكمة مشلولة أمام قرارات الحكومة، ومستشاريها العسكريين والأمنيين مما يشكل تهديدا لـ”استقرار” المنطقة ككل وتهديدا للديمقراطية الإسرائيلية التي يروج لها كأكبر ديمقراطية في الشرق الأوسط، رغم أنها لم تتسع عدالتها لتشمل حقوق الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يكون ضحية صراع الأجنحة السياسية، وكبش فداء لمزايدات الانتخابات الصهيونية، فهل تتسع اليوم لتشمل حركات احتجاجية واسعة أم ستكشر الدولة البوليسية النازية عن أنيابها، فتقمع بوحشية مواطنيها كما فعلت في مناسبات سابقة؟
المؤكد أن الوضع الحالي مختلف لأن أغلب الاستراتيجيين يقولون إن الصهاينة أمام بداية دورة تاريخية تحكمها قواعد جديدة، وستأتي بتغيرات كبرى وعاصفة عنوانها الأبرز “اِنهيار إسرائيل” الذي يتردد على لسان كبار الساسة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والعسكريين وحتى التلموديين من حاخامات وزعماء دينين بعبارات مختلفة “النهاية” “القيامة” “المصيبة” “الكارثة”، وكل فئة لها أدلتها وقراءاتها بدء من النبوءات الدينية مرورا بالدراسات التحليلية العلمية الرصينة وصولا إلى الوقائع والحقائق على الأرض.