ذهب كثير من منظري وباحثي العلاقات الدولية بأن العالم سيعرف بعد جائحة كورونا وانتشارها السريع في معظم البلدان تحولات جيوسياسية كبرى، سواء على مستوى العلاقات الدولية، أو تدبير التحالفات والتكتلات الدولية، أو على مستوى التجارة الدولية وحركة الرساميل العابرة للقارات.
إن هذه التحولات الاستراتيجية الكائنة والقادمة، لم تستطع مراكز اليقظة الاستراتيجية التكهن بها، ولا حتى المؤسسات الاستخباراتية الدولية المتخصصة المعنية بالتوقع وبناء السيناريوهات الأكثر قتامة.
بل بدأت تطفو على السطح بعض التوصيات الوقائية لبعض هذه المؤسسات من أن هذه الجائحة قد تؤدي إلى تهديدات جدية لاستقرار عدد من دول العالم العربي.
إن هذه التحولات الكبرى والتفاعلات الدراماتيكية السريعة، تقتضي من صانع القرار المحلي اتخاذ تدابير بنيوية وعميقة على أكثر من صعيد، بل وإحداث مؤسسات لليقظة الاستراتيجية لرصد مختلف التداعيات الدولية، وبناء سياسات عمومية قوية قادرة على الحفاظ على التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتجاوز هذه الأزمة الحادة بأقل الأضرار الممكنة.
المطلوب الآن، نهج مقاربات مختلفة تماما عن السياسات السابقة التي أورثت واقعا مأزوماً على أكثر من صعيد. مع هذه الأزمة الحادة التي نعيشها وتعيشها معظم البلدان، أُغْلِقت حدود العالم، وأصبح البلد الجغرافي هو الملاذ الآمن لجميع أبنائه بما فيهم المسؤولين.
إن المغرب مُطالب بالتدبير الآني للتداعيات الاجتماعية الناتجة عن الحجر الصحي، سواء المرتبطة بالحالة الاقتصادية ووضعيتها التي طالت الشركات والأفراد، أو المتعلقة بحماية الدورة الاقتصادية من الانكماش، وهذا يقتضي تخصيص اعتمادات مالية ضخمة لتجاوز هذه الأزمة، مع اتباع أعلى معايير التدبير والشفافية في إدارة هذه المخصصات.
وغير بعيد عنا، نجد أن فرنسا ستضخ 45 مليار يورو (50.22 مليار دولار) في الاقتصاد من خلال إجراءات طارئة لمساعدة الشركات والعمال، يضاف ذلك إلى ضمانات قروض حكومية بقيمة 300 مليار يورو أعلنها الرئيس إيمانويل ماكرون. وقالت بريطانيا إنها ستتيح ضمانات قروض قيمتها 330 مليار جنيه إسترليني (399 مليار دولار)، بما يعادل 15 بالمئة من ناتجها المحلى الإجمالي، إلى جانب إجراءات أخرى لمساعدة الشركات المتضررة، في تكثيف لمساعي مكافحة العواقب الاقتصادية لفيروس كورونا.
كما أعلنت إسبانيا عن حزمة ضخمة حجمها 200 مليار يورو (220 مليار دولار) لمساعدة الشركات وحماية العمال والفئات الضعيفة المتأثرة بأزمة فيروس كورونا الآخذة بالاتساع، يتكون نصف إجراءات المساعدة، البالغة قيمتها 20 بالمئة من الناتج الاقتصادي لإسبانيا.
فيما أعلن الرئيس ترامب تخصيص 2 تريليون دولار لمواجهة هذه الأزمة لدعم الشركات والأفراد وتدبير مختلف التداعيات المرتبطة بهذه الأزمة غير المسبوقة، وهي مخصصات غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي.
الحكومات مطالبة الآن بإحداث وتأسيس وتأهيل البنيات الحيوية لبلدها، من صحة وتعليم ومؤسسات اقتصادية واجتماعية، لأنها سوف تكون أول المستفيدين منها عند حاجاتها الطارئة لا قدر الله وجائحة كورونا الآن أكبر درس وأعظم عبرة.
عموما المطلوب من الدولة الآن بكل مؤسساتها، اتخاذ خطوات تاريخية وإعطاء البرهان أن قراراتها ذات أبعاد وطنية قبل أي شيء، وفيما يلي بعض المقترحات الضرورية على سبيل المثال لا الحصر، باعتبار أولويتها وراهنيتها، وإلا ففضاء المقال لا يسمح بالتوسع والتفصيل، وهو ما قد نبسطه في مقالات لاحقة بإذن الله، ومن هذه المقترحات:
1- اتخاذ قرارات استراتيجية تقطع مع الحلول الترقيعية في تدبير السياسات العمومية؛
2- ضرورة توجيه القرارات والمشاريع نحو إحداث مؤسسات استراتيجية وحيوية لليقظة والاقتراح والتخطيط ومتابعة المشاريع؛
3- إحداث 9 مدن طبية كبرى تستوعب معظم الاحتياجات الأساسية. ولنا أن نستأنس بتجربة المدينة الطبية في اسطنبول التي تتوفر على طاقة استثنائية ب 12 ألفا و100 سرير، و131 غرفة عمليات، إضافة إلى 904 عيادات خارجية، كما يتميز بالقدرة اليومية على استقبال 30 ألف مريض، و8 آلاف حالة طوارئ؛
4- إحداث مستشفيات مركزية في كل مدينة مجهزة بكامل الإمكانيات اللوجستية التخصصية؛
5- إحداث كليات للطب في معظم المدن الكبيرة، وكذا المعاهد التخصصية للمهن الطبية والمهن التقنية المرتبطة بالقطاع الصحي عموما لتخريج أكبر عدد من الأطر الطبية المؤهلة؛
6- إعطاء الأولوية للبحث العلمي وتخصيص استثمارات مهمة لذلك؛
6- إحداث جامعات ومعاهد تخصصية في معظم المدن الكبرى وتشجيعها على البحث العلمي والأكاديمي؛
7 – تغيير منهجية ونمط البيداغوجيا التعليمية، والانتقال بها من تعليم يعتمد على الحفظ، إلى تعليم يقوم على إعمال العقل والتفكير؛
8 – جعل استراتيجيات التعليم والبحث العلمي موجهة أساسا لخدمة التنمية والإقلاع الاقتصادي؛
9 – تأهيل البنية الصناعية والاقتصادية من بنية قائمة على اقتصاد عائلي معاشي، إلى بنية دولتية ومؤسساتية تدار بأعلى معايير التدبير الحديث.
كل هذا، يتطلب قرارات تاريخية ومنهجية شفافة وطنية، يشرك فيها الرأسمال الوطني العام والخاص، كما فعلت كوريا الجنوبية عندما بنت تطورها على التأسيس للنهضة الصناعية موظفة الرأسمال الوطني والذي اصطلح عليه بـ”الجيبول”، فكان أساسا لبناء نهضتها الصناعية وإقلاعها الاقتصادي، وهو ما نرى نتائجه الآن بناتج قومي إجمالي جاوز 1500 مليار دولار. ويمكن أن يكون منطلق هذه المشاريع الكبرى بأن تقوم الدولة بتوفير الوعاء العقاري بالمجان، والرأسمال الخاص الوطني يقوم بالإنشاءات والتجهيز في دورة اقتصادية متكاملة. بمثل هذه المشاريع والإنجازات نبني وطنا آخرا وبلدا آخرا، وتمسي مرحلة ما قبل كورونا ليست كما بعدها.
إن شعبنا في حاجة ماسة لمشاريع ومستشفيات، ومصانع وجامعات، ومعاهد ومؤسسات، أكثر من حاجته لصدقات وإعانات، وصدق المثل لا تعطيني سمكة كل يوم، ولكن علمني كيف أصطاد السمك. فهذه فرصة تاريخية فلا نهدرها بالحسابات السياسية الصغيرة “الخاوية”. ومن نافلة القول أن المدخل الأساسي لكل ذلك رهين بتوفر الإرادة السياسية لتحقيق انتقال حقيقي وسلس نحو الديمقراطية.
إنها فرصة تاريخية لإبراز الوطنية، وليست مناسبة لتكريس السلطوية، فشعبنا الأبي يستحق الأفضل، ويستحق أن نضحي حقا من أجله، ومن أجل الأجيال القادمة.