هما قرة عيني

Cover Image for هما قرة عيني
نشر بتاريخ

تحت ما تراكم من أنقاض الدنيا بين نجاح وفشل، خيبات وآمال، تعثرات وعزمات، كلنا يملك وطنا لا يخذله، وطن يحميه دائما، وطن يحتويه رغم كل تناقضاته وتقصيره، وطن يبكي بين يديه دون انكسار؛ إنه قلب أم وأب.

حقا تخونني الكلمات ويشل لساني عن التعبير وتخنقني العبرات، كلما رأيت خطوط العمر تزين وجنتيكما، وكلما رأيت تعب السنين يلقي بكاهله ليوشح رأسيكما، يا تاجا أفتخر به بين الخلائق، واعتز بكما في كل مكان.

لا لشيء سوى أن أمي كانت تكافئني إذا أكلت وجبتي، وأبي كان يكافئني إذا حققت نجاحا.

لا أحد يا عزيزي يكافئك على إحسانك لنفسك إلا والديك، لذلك بر الوالدين ليس مناوبات وظيفية بينك وبين إخوانك، بل مزاحمات على أبواب الجنان، جاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واستأذَنَه في الجهادِ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحَيٌّ والداكَ؟ قال: نعمْ، قال: ففيهما فجاهِدْ).

والله إنه من نعيم الدنيا المعجل ضحكة الوالدين والأنس بهما والاجتماع معهما، لأنه في هذه الدنيا سريعة الزوال كل شيء يتغير؛ الصديق والحبيب والقريب والنفوس، ما عدا قلب الوالدين.

ومن صور البر الكبرى بالوالدين أن تكون هينا لينا بصلاحك وحسن خلقك وتربيتك، وأدبك سبب لدعاء الناس لهما والثناء عليهما، فتجعل من يراك يقول: رحم الله من رباك. واعلم أن دين الأب والأم يستحيل سداده مهما أقنعت نفسك بذلك، فقط قل: “رب ارحمهما كما ربياني صغيرا”.

برهما دِين ودَين؛ فالأولى ترتقي بك إلى أعالي الجنان، والثانية يردها لك أبناؤك، فبر الوالدين قصه تكتبها أنت ويرويها لك أبناؤك، فأحسن الكتابة.

وقد أمرنا الله عز و جل ببر الوالدين، وجعل حقهما في مرتبة تالية لحقه، قال تعالى: وقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء، 23]، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء، 36].

الوالدان هما السبب الذي شاء الله أن يوجد الأبناء من خلاله، وقد عانيا في سبيل ذلك عناءا كبيرا، ولاقيا صعابا جمة؛ الأم التي حملت وليدها كرها ووضعته كرها أمرنا الله بإكرامها وخفض الجناح والدعاء لها، وكذا الأب الذي سعى في الرزق بما يملك من جهد وصحة، قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا.

خلاصه القول؛ الأم هي الحب وكل هذه المعارف والنعم هي بعض فتاة موائدها، جاء رجل اسمه جاهمة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسولَ اللَّهِ، أردتُ أن أغزوَ وقد جئتُ أستشيرُكَ؟ فقالَ: هل لَكَ مِن أمّ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فالزَمها فإنَّ الجنَّةَ تحتَ رِجلَيها) (1). والأب هو ذلك الذي إذا طلبت منه نجمتين أتاك وهو يحمل السماء على ظهره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإن شئتَ فأضِع ذلك البابَ أو احفظه) (2).

فاللهم يا رب السماوات والأرض، يا عالم الغيب والشهادة، أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت، أن ترفع درجات أمهاتنا وآبائنا، وأن تحرم عليهما عذاب النار وعذاب القبر، وأن تجعلهما ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن تسقيهما شربة هنيئة من حوض نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم.


الهوامش:

(1) جامع المسانيد والسنن، 9781.

(2) سنن الترمذي، 1900.