بكة… أي خيرات و أيّ بركات
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (البقرة 126
حينما تدخل –أخي الحاج-إلى أم القرى سيلتهب حماسك، وستلهج بالتلبية حواسك… وكلما ازددت من البيت قربا، إلاّ واهتزّ القلب شوقا وطربا…
فرضت عليك مكة المكرّمة الثوب الذي تدخلها به ولم تترك لك الخيار، رداء أبيض ومثله إزار… ستفرح بك على طريقتها، يا مرحبا بضيوف الرحمان… يا مرحبا بالزوّار، حللتم أهلا ونزلتم سهلا طابت بمجيئكم الديار.
أسرع –ضيف الرحمان-إلى فندقك، ضع متاعك، أمّن أغراضك، جدّد طهارة جسدك إن احتجت لذلك، وجدّد طهارة قلبك ولابدّ من ذلك، واندفع نحو بيت ربّك.
اللهم البلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك، وأروم طاعتك، متبعاً لأمرك، أسألك مسألة المضطر إليك، المشفق من عذابك أن تستقبلني بعفوك، وأن تتجاوز عني برحمتك، وأن تدخلني جنتك. ثم صلّ على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
لبّ بحرارة في الطريق، لبّ أنت والصاحب والرفيق، ستشعر بأن الدنيا كلّها تلبي معك… وحينما تصل إلى المسجد الحرام-ويستحب الدخول من باب السلام-ادخل بيُمناك وصلّ على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل: “اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك”.
“اللهم هذا حرمك، وموضع أمنك، فحرِّم لحمي وبشري ودمي ومخي وعظامي على النار”.
لا تصلّ ركعتي التحية، واقطع عند الباب التلبية، وانطلق صوب صحن المطاف.
الله … الله… ما أبهاها، وما أحلاها، وما أعظمها وما أزهاها…
أيّ سرّ فيك يا كعبة ربّي؟ …
كلّ جمال في الدنيا يذبل بعد حين، إلاّ جمالك فيزداد مع مرور السنين…
ستسلبك الكعبة-أخي الحاج-عقلك، وستُذهب لبّك.
ستفغر فيها فاك، وستجحظ في حسنها عيناك، ولن تستحيي ممّن يراك، انظر فلك الأولى والثانية والثالثة وما سوى ذاك… انظر فليست من سهام إبليس، انظر سلمت مقلتاك… لا… لا… أؤكّد لك… لا… ليست كما كنت تراها على القنوات… تلك ما هي إلاّ صور وتجليات… وهذه هي بالذات والصفات، آية من الآيات… فسبحان خالق الأرض والسماوات. كفكف -أخي الحبيب-دمعك، ولُمَّ شملك وهلّل وكبّر:
لا إله إلا الله، والله أكبر-ثلاث مرات-وارفع يديك، وادع فإن الدعاء أحرى بالإجابة في مواطن الخير.
ادع بما تحتاج… ادع لنفسك ولأبويك ولذريتك وإخوانك وجيرانك وأهل أوطانك، ولا تنسنا-أُخَيّ-من دعائك ثمّ ادع بدعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
” اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام”.
حينما تعود إلى رشدك، وتستيقظ من سكرة الأنس وحلاوة القرب، انطلق نحو الحجر الأسود، وهو حجر من الجنّة كان أشدّ بياضا من الثلج، حتى سوّدته خطايا أهل الشرك، أُلثم يمين الله في الأرض إن أمكنك، أو المسه إن استطعت، وإلاّ فالإشارة إليه بيمينك تكفيك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ليبعثنّ الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، ويشهد على من استلمه بحقّ”. وقال: “مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطّان الخطايا حطّا”.
انو طواف العمرة وقل: “بسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، وإتباعاً لسنة نبيك”.
ثمّ ابدأ طوافك مضطبعا، وأسرع وقارب الخطى في الأشواط الثلاثة الأولى فذلك الرمل. طف يا أخي بانكسار… هلل، كبّر، سبّح وأكثر الاستغفار… اذْرِف الدّمع وقل يا غفار… يا ستار… اغفر ما مضى من عظيم الجرم والأوزار… وامح عني ذنوبي واكتبني في الأطهار… استر عليَّ ما جنته يدي بالليل والنهار… عبدك الآبق أتاك ذليلا طائعا يرجو الجوار… إلى أين منك. وما منك مهرب ولا فرار…؟ ما لي سواك ملجأ أرجوه، فامنن على عُبَيدِك ولا تصلني بالنار. اجعله يا ربّ حجاّ مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا…
حينما تبلغ الركن اليماني استلمه إن أمكنك، فإن لم تتمكّن من ذلك فلا شيء عليك، وقل:
رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (البقرة 201)
حتى تبلغ الحجر الأسعد… وها قد أكملت الشوط الاول.
بنفس الطريقة تأتي بالأشواط الستّة المتبقية لتكمل الركن الثاني من أركان العمرة وهو الطواف.
والطواف كلّه سبعة أشواط ابتداء بالحجر الأسود وعودة إليه.
بعد انتهائك من الطواف، انطلق خلف المقام واقرأ قوله تعالى:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى (البقرة 125)
ثمّ صلّ ركعتين، تقرأ في الأولى بالفاتحة وسورة الكافرون، وفي الثانية بالفاتحة وسورة الإخلاص.
بعد الركعتين، توجّه نحو الملتزم وهو ما بين الركن والباب، وضع صدرك ووجهك وابسط ذراعيك في الرحاب، وقل يا وهابّ… . يا وهاّب … اقبلني عندك في الأحباب، واجعلني من أولي الألباب. ثم انطلق إلى المسعى…
عند مدخل النفق الموصل إلى المسعى ستجد مياه زمزم المباركة، تضلّع منها، واشرب على ثلاثة أنفاس وادع الله ربّ الناس، أن يحفظنا وإياك من كلّ باس، ومن شرّ الوسواس الخناّس. و”ماء زمزم لما شرب له”. وهي “طعام طعم وشفاء سقم”. رواه مسلم وأبو داود الطيالسي
بعد ذلك انطلق –أخي الحاج-إلى المسعى، واصعد إلى الصفا واقرأ قوله تعالى:
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (البقرة 158)
وقل: “أبدأ بما بدأ اللَّه به”. استقبل القِبلة، وحِّد اللَّه وكبّره، وقل: “الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَه، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شيء قدير، لا إله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه”. ثم ادع بين ذلك، افعل هذا ثلاثَ مرات. ثم انزل نحو المروة ماشيا ذاكرا متفكّرا، حتى إذا بلغت الميل الأخضر، فهرول حتَّى تجاوز الميل الأخضر الموالي. “لا يُقطع الأبطح إلاّ شَدّا” رواه النسائي
ثم امش حتى تصعد المروة، وافعل كما فعلت على الصفا تماما. وها قد أكملت شوطا من الركن الثالث من أركان العمرة ألا وهو السعي.
الشوط الثاني من السعي يبدأ من المروة وينتهي عند الصفا، وهكذا حتى تكمل الأشواط السبعة منتهيا عند المروة.
تذكر-أخي الحاج-أنّه ذات يوم حمل الخليل ابراهيم u زوجته السيدة هاجر وابنه اسماعيل -عليهما السلام-وأتى بهما إلى مكة، ولم تكن يومها إلا أرضا قفرا بلا ماء ولا نبات… فتركهما وحدهما في الصحراء القاحلة بلا جليس ولا أنيس-وسيدنا اسماعيل يومها رضيع-ثم انطلق ذاهبا… فقالت له أمنا هاجر-عليها السلام-: يا ابراهيم أو تتركنا في هذا الوادي بلا جليس ولا أنيس؟ فلم يجبها. فأعادت عليه سؤالها وهو منصرف فلم يجبها. فقالت: آ الله أمرك بهذا؟ قال: نعم… فقالت-عليها السلام-: إذن لا يضيِّعنا. كان إيمان أمنا هاجر -الجارية التي وهبها جبّار مصر للسيدة سارة-عليها السلام-بعد حفظ الله لها من بطشه-عظيما، وكان يقينها في المولى سبحانه كبيرا.
وانصرف سيدنا ابراهيمu وتركهما وحدهما، انصرف وهو يقول:
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (إبراهيم 37)
وشعر سيدنا اسماعيلu بالعطش، وأخذ يبكي… وكبد أمّه يتفتّت… والوادي قفر. فانطلقت المسكينة هاجر-عليها السلام-تجري حتى صعدت الصفا، نظرت يمينا… لا أحد، نظرت شمالا… لا أحد. نزلت… ومضت تمشي حتى إذا كانت ببطن الوادي قطّع بكاء وحيدها قلبها فهرولت… فلماّ نال منها التعب مشت حتى صعدت المروة… نظرت يمينا… نظرت شمالا… لا أحد. فانطلقت نحو الصفا من جديد، فلمّا تمّ لها الشوط السابع، أتاها ملك بنور ساطع، وضرب بجناحه الأرض فإذا الماء المبارك نابع… اشربي أم اسماعيل واسقي الرضيع، من كان معه الله… أبدا … أبدا لا يضيع… هكذا انبعثت مياه زمزم المباركة، في واد غير ذي زرع بمكّة.
هذه كانت أول الثمرات، بعدها ستحلّ البركات، وتتنزّل الرحمات، وتقام الصلوات، وتأتي الجماعات تلو الجماعات، في أيام معلومات، ليطّوفوا بالبيت العتيق ويذكروا الله على ما رزقهم من عظيم الخيرات.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (الحج 27-29)
أخي الحاج…
وأنت في السعي تذكر هذه المعاني العظيمة، وهذه العبر ذات القيمة، واسأل الكريم سبحانه أن يشفي قلوبنا السقيمة، لتلحق بركب من سبقت لهم من الله الحسنى والعناية، ووعدهم في الأخرى بالجنة والزيادة.
بعد السعي تكون -أخي الحاج-قد أكملت أركان عمرتك، ولم يبق لك إلاّ واجب حلق أو تقصير شعرك، وها قد تحللت كلّيا من إحرامك إلاّ الصيد فإنّه لا يحلّ لك.
اغنم -أخي الحاج-من أيام إقامتك بمكة المكرمة، وتلذذ بنعيم القرب من البيت العتيق، وعدّد العمرات ما أمكنك، وأكثر الطواف فإنّه عبادة لا تؤدى إلاّ حول الكعبة الشريفة، وإيّاك ثمّ إياك وتضييع الصلوات في المسجد، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة… “الصلاة طُهْرَةٌ للقلوب من أدناس الذنوب، واستفتاح لباب الغيوب”. (ابن عطاء الله).
لا تضيّع أوقات فراغك في الكلام، واغتنمها في البحث والتنقيب عن آثار الآل والصحب الكرام، زُر بيت نبيك المظلل بالغمام، واعرِج على قبر أمك الطاهرة العفيفة خديجة-عليها السلام-، واصعد إلى حراء حيث نزل الوحي ابتداء على خير الأنام… وتأمل في غار ثور، وما كان في هجرة الحبيب المصطفى من دروس عظام.
ينشغل كثير من الحجاج بما حول البيت من شاهق العمران، وتبهرهم ساعة البرج وحجم العقارب والألوان، ويكثر حديثهم عن التوسعة والأشغال والبنيان، ويضيعون في أسواق يتعاقب عليهم فيها من التجار فرقتان، الليل والنهار عندهم سيّان.
ووسط كل هذا، قوم هاموا في حبّ الله، وطلب وجه الله، لا ينبهرون إلاّ بتجليات جماله، ولا يتحدثون إلاّ عن عظيم جلاله، ولا يتلذذون إلاّ بقربه، ولا يشبعون إلاّ بأنسه. أنساهم به عن نفوسهم، وألهاهم بذكره عن بطونهم، فماء زمزم يرويهم، وبعض القِرى يكفيهم، وهم مع هذا غير مفرطين في ذويهم، وغير مضيّعين لحقوق مرافقيهم. فكن لبيبا-أيها الحاج-وتأسّ بهم… بل كن معهم ومنهم.
“دوام الاستقامة يوجب دوام الكرامة، والروغان عن الطريق غرامة وندامة. فمن استقام على صحبة الكاملين دامت له كرامة التوفيق. ومن انعزل عن جماعة الصالحين ابتلعته الفتنة المحيطة. ومن زهد في حلق الذكر، وزاغ عن الأوراد، وتهاون في الأوقات، قسا قلبه، وكسلت جوارحه، وأظلمت روحانيته. ومن عامل الله عزّ وجلّ بإرادة مائلة، وأنانية متطاولة، وجبن في مواطن الثبات، وبخل في حلول الحاجات، هوى عن العقبة، وسقط فاندقّت منه الرقبة” (عبد السلام ياسين).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وحزبه