غزة عبارة عن بقعة جغرافية صغيرة تضم كثافة سكانية كبيرة جدا، محاصرة من الجهات الأربع، حصار أوقف كل شرايين الحياة، وسبب للناس معاناة بعضها فوق بعض، ليس هذا فحسب بل تشهد هذه البقعة حربا منتظمة كل سنتين تقريبا، يشنها كيان عنصري ومتغطرس يسمى إسرائيل كلما أراد تصريف مشاكله الداخلية، حيث جربت جميع الحكومات الصهيونية المتعاقبة حظها السياسي في هذا الشعب الصامد قتلا وتدميرا، تلكم هي غزة التي تسطر هذه الاأيام أروع ملاحم الصمود والثبات في وجه الالة الصهيونية الفتاكة التي اعتقدت أن هذا هو الزمن المناسب للقضاء على المقاومة الفلسطينية.
ومن خلال ملاحظة سريعة لمجريات الأحداث يتبين لنا أن توازن الرعب الذي حققته المقاومة، ولم يكن هناك توازن قوة، إنما تحقق بفضل ثلاثة أسلحة أساسية:
المجاهدون أسود الميدان:
هم رجال المقاومة الذين أظهروا قدرات مدهشة حتى الآن، هؤلاء الذين لا يعرفهم أحد.. الذين لا يزينون صدورهم بالنياشين ولا يحملون ألقابا عسكرية، الشيء الوحيد الذي يحملونه معهم دوما هو الإيمان بالله وقضيتهم، هؤلاء “الأشباح” هم الذين يلاحقون جنود العدو في كل مكان ويقتلون ويأسرون ويحققون انتصارا تلو الانتصار… الذين حققوا ما لم يحققه العرب مجتمعين بجيوشهم النظامية طيلة تاريخ صراعهم المزعوم مع هذا الكيان العنصري رغم قلة العدة والعتاد، وأسباب الهزيمة المحيطة من أمة ضعيفة يفتك بعضها ببعض ويتنافس على خيراتها الشرق والغرب، والحصار المضروب برا وبحرا وجوا من الإخوة والأعداء، ودعوات التشميت والتشويه والتسفيه التي تطالهم من أقرب الأقربين إليهم، هذا الوضع المحبط لم يفت في عضدهم حيث تجملوا بالصبر وضبط النفس ولم يلفتوا لا إلى اليمين ولا اليسار، وقد عرفوا عدوهم الحقيقي الذي ينبغي أن توجه له البنادق والصواريخ والطائرات، فاستثمروا كل وقتهم في العمل والاستعداد، لذلك خرجت منهم هذه المفاجآت في الميدان التي ألحقت حتى الآن هزيمة غير معلنة بالعدو، وإن كان هنالك من فرق يبنهم وبين أعدائهم المسربلين بالسلاح هو حرصهم على الشهادة كما يحرصون هم على الحياة وبفضل هؤلاء المجاهدين تفاجأ الجميع بضربات المقاومة الموجعة وامتلاكها لزمام المبادرة والإدارة لحرب تبدو غير متكافئة لمن يقيس الأمور بالمقاييس المادية فقط.
الانفاق هي شرايين الحياة ووسيلة إثبات الثبات:
تكاد تكون إبداعا فلسطينيا خالصا، وفي حقيقة الأمر فإن هذه الأنفاق هي التي تحقق توازن الرعب مع الالة الصهيونية الفتاكة، التي تعتمد على اخر ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية، ذلك أنه لم يكن أمام الحصار المضروب على القطاع برا وجوا وبحرا سوى النفاذ إلى باطن الأرض وتشييد الأنفاق باعتبارها السبيل الوحيد لمقاومة محاولات تركيع وإذلال أبناء غزة، ويمكننا أن نتصور أن تحت أرض غزة هناك مدينة كاملة من الأنفاق تمت هندستها بشكل دقيق لتؤدي أدوارها الاقتصادية والعسكرية والإنسانية كما ينبغي، وهذا ليس بغريب عل شعب الجبارين كما كان يلقبه ياسر عرفات رحمه الله، وقد تعاظم دورها مع الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، حيث اعتمدت الفصائل المقاومة، خاصة كتائب القسام، تكتيكات مذهلة أدخلت الرعب في العدو الصهيوني الذي وجد نفسه أمام عمل عسكري ينطلق أساسا من باطن الأرض وليس من فوقها، كما هو الحال في المواجهات العسكرية التقليدية، ذلك أن عشرات الجنود الصهاينة الذين قضوا في هذه المواجهات إنما قضوا بفضل عمليات الإنزال التي تتم خلف الآاليات العسكرية انطلاقا من الأنفاق، ومع تكرار هذه العمليات وتنوع التكتيكات التي تنطلق منها صارت بمثابة كوابيس تقض مضجع جنود الصهاينة وتطاردهم في النوم واليقظة، وحال الواحد منهم وهو يطأ غزة كحال من يساق إلى الموت وهو ينظر.
الشهداء قناديل تضئ طريق النصر:
يقول محومد دويش:
إن سألوك عن غزة فقل:
بها شهيد
يسعفه شهيد، ويصوره، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد
هي مدينة الشهداء فعلا، حتى الآن حصدت الآلة الصهيونية أزيد من ألف شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء، رغم هذا العدد الضخم فإن المعنويات مرتفعة، والصور القادمة من هناك تحكي عن شعب فريد، المواطنون يمشون في الأسواق ويصلون في المساجد ويتفقدون ما بقي من أحيائهم وشوارعهم، غير مبالين بالصواريخ والطائرات الحاملة للموت والدمار، لا يبالي الواحد منهم إن وقع على الموت أم وقعت عليه، صحيح أن هناك حزنا على فقد الأحبة وهو أمر طبيعي وإنساني، لا ينفي أن ثقافة الاستشهاد صارت جزءا من المقاومة وجزءا من الحياة بل هي الحياة نفسها، {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} 1 حياة للفرد عند ربه وحياة للأمة في دنيا لا تعترف إلا بالأقوياء، هذه الثقافة تسبب الإحباط للكيان الصهيوني الذي يتصور أنه كلما أوغل في الدماء والتدمير كلما نال من صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على حقوقه والتحامه بالمقاومة واحتضانه لها.
هذه الأسلحة الثلاثة هي الصور التي تؤثث مشهد الصمود في غزة، التي تدافع عن شرف هذه الأمة التي تعتبر محنة فلسطين عنوان هزيمتها، وهذا الصمود الأسطوري يدل على أن الأمة لا تعدم أسباب القوة ومقومات الانتصار إذا ما سحبت ولاءها الأعمى للشرق والغرب.