قيل لولا الشفا ما عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم.. كتاب “تُلُقّي بالقبول” وبسطت بين يدي قراءته وختمه ونسبته موائد ومجالس حتى تواصوا به وتناصحوا “بيعوا ثيابكم واشتروا الشفا”..
يقال كتاب سيرة، وقيل كتاب شمائل، وأقول هو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ “وأنت تقرأه كأنك تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقد خبرت ذاك وأنا أقرأه فقرة فقرة بعد الصلاة المكتوبة وبين يدي الصلاة والسلام عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. حصلت لي منه بركات وخيرات، والتاع به القلب شوقا لرسول الله، وعرفت من حقوقه علينا صلوات ربي وسلامه عليه ما زاد تعظيمه في قلبي، وأكمل حبّه بين شغاف روحي الهائمة به، صلى الله عليه تسليما كثيرا.
واليوم وذكراه الجميلة تحلّ فينا من جديد، والقلوب منكسرة مما يحدث فيها من تصدعات ويعتمل فيها من أحزان تكاد تفتك بها. والعين تسيل مع عبراتها وجعا وألما من مرأى أحبة أعزة نشامى يقصفون ليل نهار، ويسامون سوء العذاب وإنسانية العرب والعجم سواء بسواء في سبات..
تحلّ ذكرى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمته التي قال عنها: “أمتي أمتي” تجترح الكبائر والسيئات، وتعيش في نكد الظلم والاستبداد، وترزح تحت نير الوهن والفتن والفرقة الشتات.. يتساءل من بقلبه جذوة مشتعلة، وهمة متطلعة لجواره الحبيب في الدنيا والآخرة: هل من مخرج؟ هل من خلاص؟
“الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم” كتاب متفرّد في تناوله لسيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وشمائله العظيمة. جميل في تذكرته وبيانه وأسلوبه. رائقٌ في تعاطيه مع تعريف حقوقه صلوات ربي وسلامه عليه، وحذِقٌ في تصوير مكانته المعظّمة الشريفة عند ربه جل وعلا، وبين سائر خلقه عز وجل.
فهو الحبيب المُحبُّ المحبوب، مُنية كل طالبٍ وجهَ ربّه المعبود. هو المفتاح وهو الباب وبه الولوج. لا اختراق للحُجُب من دون معيّته وتبعيّته ومحبوبيّته، ولا احتراق للمسافات وطيّها بلا مطيّة الصلاة والسلام عليه حتى يُقال: “ذو جنون”. فالشّفا به ومنه، والانجماع والاجتماع على ربّ الأرباب لا يكون دونه. هو الصاحب والمصحوب، وهو التّجلّي الكامل للحبّ والوجود. هو التّرياق، هو الشفاء، هو الدواء، هو الهناء..
يقول القاضي عياض، أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، في مقدمة كتابه الشريف: “الحمد لله المتفرِّد باسمه الأسمى، المُختصّ بالملك الأعزّ الأحمى، الذي ليس دونه منتهى ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيّلا ووهْما، الباطن تقدّسًا لا عدما، وسع كل شيء رحمة وعلما، وأسبغ على أوليائه نعما عُمّا، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم عربا وعجما، وأزكاهم محتدا ومنْمى، وأرجحهم عقلا وحلما، وأوفرهم علما وفهما، وأقواهم يقينا وعزما، وأشدّهم بهم رأفة ورُحمى، وزكّاه روحا وجسما، وحاشَهُ عيبا ووصْما، وآتاه حكمة وحُكما، وفتح به أعينا عميا وقلوبا غُلفا وآذانا صُمّا، فآمن به وعزّره ونصره من جعل الله له في مغنم السعادة قسما، وكذَّب به وصدف عن آياته من كتب الله عليه الشقاء حتما، وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا (الإسراء، الآية 72).. صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا”.
ثم يقول في سبب تأليفه لكتاب الشفا: “.. فإنك كررت علي السؤال في مجموعٍ يتضمن التعريف بقدر المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما يجب له من توقير وإكرام، وما حكم من لم يوفّ واجب عظيم ذلك القدر ، أو قصّر في حق منصبه الجليل قُلامة ظُفر، وأن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، وأبيّنه بتنزيل صور وأمثال، فاعلم أكرمك الله أنك حمّلتني من ذلك أمْرا إمْرا، وأرهقتني فيما ندبتني إليه عُسرا، وأرْقيْتني بما كلّفتني مرتقى صعبا، ملأ قلبي رُعبا…”.
ما الذي بعث الرعب في قلب علامة كالقاضي عياض رحمة الله تعالى عليه؟ هل عجزه عن إجابة السائل فيما طلب منه وسأل؟ أم هي هيبة من سيُتناول بالإجابة وسيؤلف عنه ويُكتب؟
ذلك كان ديدن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، لا يقبلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على شيء يتعلق به صلى الله عليه وسلم إلا وأخذتهم هيبته عليه الصلاة والسلام فكأن على رؤوسهم الطير.
ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى في “الشفاء” أن مالكا رحمه الله سُئل عن أيوب السختياني فقال: “ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. قال: وحج حجتين، فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه”.
قال عياض: وقال مصعب بن عبد الله: “كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعُب ذلك على جلسائه. فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليّ ما ترون: لقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى نرحمه. ولقد كنت أرى جعفر بن محمد (وهو الإمام جعفر الصادق من آل البيت) وكان كثير الدُّعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفر لونه. وما رأيته يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة. ولقد اختلفت إليه زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إمّا مُصليا، وإما صامتا، وإما يقرأ القرآن. ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعبّاد الذين يخشون الله.
قال مالك: ولقد كان عبد الرحمان بن القاسم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيُنظَرُ إلى لونه كأنه نزف من الدم، وقد جفّ لسانه في فمه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع. ولقد رأيت الزُّهري، وكان لمن أهْنإ الناس وأقربهم، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته. ولقد كنت آتي صفوان بن سُلَيم، وكان من المتعبّدين المجتهدين، فإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه”.
كانوا رحمة الله عليهم يوقّرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدرونه حق قدره الشريف، ويعرفون حقه الكريم صلى الله عليه وسلم، ويعيشون حبه ويتمثلونه.
يقول القاضي عياض في سبب امتلاء قلبه رعبا مما هو مقدم عليه: “.. فإن الكلام في ذلك يستدعي تقدير أصول، وتحرير فصول، والكشف عن غوامض ودقائق من علم الحقائق، مما يجب للنبي ويضاف إليه، أو يمتنع أو يجوز عليه، ومعرفة النبي والرسول والرسالة والنبوة، والمحبة والخلّة وخصائص هذه الدّرجة العليّة، وها هنا مهَامِهُ فِيحٌ تحارُ فيها القطا، وتقصُرُ بها الخُطا، ومجاهل تضلّ فيها الأحلام إن لم تهتد بعَلَمِ عِلْمٍ ونظرٍ سديدٍ، ومداحضُ تزِلّ بها الأقدام إن لم تعتمد على توفيق من الله وتأييد، لكنّي لما رجوته لي ولك في هذا السؤال والجواب، من نوالٍ وثوابٍ، بتعريف قدره الجسيم، وخُلُقه العظيم، وبيان خصائصه التي لم تجتمع قبلُ في مخلوقٍ، وما يُدانُ الله تعالى به من حقّه الذي هو أرفع الحقوق لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا (المدثر، الآية 32)”.
ثم يقول: “ولمّا نويتُ تقريبه، ودرّجتُ تبويبه، ومهّدت تأصيله وخلّصت تفصيله، وانتحيت حصره وتحصيله. ترجمته بالشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحصرت الكلام فيه في أربعة أقسام” .. “وبتمامها ينتجزُ الكتاب، وتتمّ الأقسام والأبواب، ويلوحُ في غُرّة الإيمان لُمعةٌ منيرة أو في تاج التراجم درّة خطيرة، تزيح كل لبس، وتوضح كل تخمين وحدس: وتشفي صدور قوم مؤمنين وتصدعُ بالحقّ وتعرضُ عن الجاهلين، وبالله تعالى – لا إله سواه – أستعين”.
ثم ينطلق بك الكتاب في رحلة سماوية جليلة ترفضّ بك عرقا، وتتخشّع لها أوصالك أنسا وطربا، وتتصدع بها جوانحك شوقا وولها، وتتجدد فيها أنوارك وصلاتك ووصلاتك بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ذِكرا وتذكّرا.
“.. وإلى الله تعالى جزيل الضراعة والمنّة بقبول ما منه لوجهه والعفو عمّا تخلّله من تزيّن وتصنّع لغيره، وأن يهب لنا ذلك بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه من شرف مُصطفاه وأمين وحيه، وأسهرنا به جفوننا لتتبّع فضائله، وأعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه ووسائله، ويحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عِرضه، ويجعلنا ممن لا يُذاد إذا ذِيدَ المبدِّل عن حوضه، ويجعله لنا ولمن تهمّم باكتتابه واكتسابه سببا يصلنا بأسبابه، وذخيرةً نجدها يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا (آل عمران، الآية 30)”.