بعث أبو العاص زينب إلى أبيها صلى الله عليه وسلم وفاء بوعد قطعه على نفسه، وخرجت هي عليها السلام امتثالا لأمر الله ورسوله بعد أن استنفدت الجهد في دعوة زوجها إلى الإسلام. ما خرجت خوفا من أبيها ولا من جيوشه، فهي تعلم علم اليقين أنه ما كان ملكا يبطش بخصومه ومعارضيه بل هي النبوة والرحمة الإلهية التي تمنت أن يفيء زوجها تحت ظلالها ولكن بشاشة الإسلام لم تخالط بعد صفحة ذلك القلب الوفي ذي المروءة، ولا إكراه في الدين. ولم يخطئ الفهم عن الله ورسوله طريقه إلى بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحبها لزوجها والرغبة في الحفاظ على أسرتها ما كان ليطغى على وقوفها عند حدود الله، فقد حسم الأمر ونزل قوله عز وجل لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن، ولكن صدق الإيمان لم يتعارض قط في نفسها مع قوة العزم على الإبحار بأسرتها حتى شاطئ النجاة. والمؤمن الذكي القوي أحب إلى الله وأنفع للعباد من المؤمن الساذج الضعيف.
هجرة وابتلاء
فكانت هجرة وابتلاء، حيث كبر على المشركين أن تخرج من بين ظهرانيهم بنت رسول الله وطعم الهزيمة لم يزل غضا في حلوقهم، فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود، والفهري، فروعها هبار بالرمح وهي في هودجها، وكانت حاملا فلما ريعت طرحت ذا بطنها.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر دم هبار، لكن هبارا أسلم بعد ذلك فحقن دمه، وكان الناس يسبونه بفعلته التي كانت سببا في وفاة السيدة زينب، حيث ظلت تنزف منذ تلك الحادثة، فكان الصحابة يرون أنها ماتت شهيدة عليها السلام.
هكذا نالت زينب رضي الله عنها نصيبا من أذى قريش فصبرت واحتسبت، وأعطت برهان الصدق ودليل الإيمان من نفسها ومن مشاعرها، عندما صبرت نفسها عن فراق زوجها، ما كان فراقا من خلافات بينها وبينه ولا من أذى لحقها منه، فقد كان لها نعم الزوج وكذلك كانت هي له، إنما هو فراق في ذات الله، وما تاجر عبد مع الله إلا ربح البيع.
يجير على المسلمين أدناهم
أي قدر رحيم يعتني بهذا الزوج الشارد عن الله ويسوقه إلى سعادته، بل أي قدر لطيف يترفق بهذين الزوجين ويحنو عليهما، ألم نقل أن من تاجر مع الله لم تبر تجارته أبدا. ما كان الله عز وجل ليخيب بنت رسول الله في رغبتها في إسلام زوجها، ولمّ شمل أسرتها تحت راية الإسلام. فها هو الآن أبو العاص بشحمه ولحمه معها في بيت واحد وتحت سقف واحد، بعد أن لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابوا ما معه وأعجزهم هاربا، جاء يطلب الجوار والأمان من المرأة، وهي الضعيفة، لكن في مجتمع يحترم تعاليم ربه تكون الضعيفة بنفسها قوية بربها وبوقوف مجتمعها عند حدود الله عز وجل، فإن المسلمين يجير عليهم أدناهم، فجوارها يحترم حتى وإن لم تكن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا حق كل فرد في الإسلام رجلا كان أو امرأة، في الحرب والسلم.
“أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع”
هذا خطاب زينب بنت رسول الله للمسلمين ومعهم رسول الله بالمسجد، ما كان يعلم أبوها صلى الله عليه وسلم عن أمرها شيئا حتى بادرت بإعلانه على الملأ. ماذا قال النبي وقد فاجأته ابنته بقرار اتخذته ولم تستشر فيه أحدا، هل توعدها بالعقاب لأنها أوقفته موقفا حرجا أمام أصحابه الذين قد يظنون أنه ليست له على ابنته سلطة؟ لنترك هذا الفعل لكل أب لم يتخذ من رسول الله أسوة حسنة كما أمره ربه. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يغضب لنفسه قط إلا أن يكون الغضب لله، ولم يسب أحدا ولم يلعن ولم يقبح ولم يضرب امرأة (لضعفها الجسدي) ولا خادما (لضعفه المعنوي) إلا أن يجاهد في سبيل الله، فقد شد من عزم ابنته واحترم قرارها، فقال: أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم، قال: أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته فقال: أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلصن إليك، فإنك لا تحلين له”. هذا كل شيء، وقوف عند حدود الله، لا غضب ولا عتاب ولا عزة بالنفس. صلى الله عليك يا رحمة الله للعالمين صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
ليس ذلك فحسب، بل إنه بعث صلى الله عليه وسلم إلى السرية التي أصابت مال صهره راجيا منهم أن يردوا إليه ما أخذوا منه تأليفا لقلبه ففعلوا جميعهم، فأخذ العاص بن الربيع المال والبضاعة ورجع بها إلى مكة فخاطب قومه: “يا معشر قريش هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا فجزاك الله خيرا، فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وصال بعد طول فراق
رجع سيدنا أبو العاص بن الربيع مسلما بعدما أدى أمانة قومه، ودخل الإسلام لتبدأ صفحة مشرقة في حياته، والتأم شمل الأسرة من جديد، ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب على النكاح الأول، لم يحدث شيئا (بعد ست سنين)، وكانت الفرحة فرحتين، فرحة اللقاء وفرحة الإسلام، تماما كما تمنت السيدة الجليلة الصبورة الحكيمة العاقلة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كان ينغص تلك الفرحة إلا مرضها الذي كان يلازمها منذ تعرضها لحادث الهجرة.
وما لبثت أن التحقت بالرفيق الأعلى عليها السلام في أول سنة ثمان للهجرة. ومن غريب الأقدار أن يلحق بها زوجها أبو العاص رضي الله عنه بعد قليل من وفاتها، بعدما ضربا لنا مثالا للوفاء والحب والكفاح من أجل إنجاح أسرتهما. وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من إزاره كفنا يلي جسدها الطاهر، دليلا على شدة حبه لابنته الغالية، وعظم مصابه فيها.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.