وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
أمر إلهي استجاب له أبو الأنبياء، سيدنا إبراهيم عليه السلام، فأطلقها دعوةً، منذ ذلك العهد السحيق من تاريخ البشرية، فخالطت بشاشتُها القلوب، وتهافتت إلى تلبيتها الأرواح، أفواج تتلوها أفواج من بني البشر أبيضهم وأسودهم وأحمرهم وأصفرهم، يجذبهم إلى رحاب الله جاذب العبودية ومغناطيس المحبة وداعي الإيمان وحيعلة الفلاح، ملبين مستجيبين منيبين مستغفرين مهللين مكبرين متشوقين متلهفين متطلعين إلى رحمة الله ومغفرته وعفوه وكرمه ومدده.
أذان بالحج ودعوة إلى الفلاح وهتاف نوراني يقود الأرواح إلى سعادتها في الدارين، ويسوقها إلى حظها من الكمال البشري، تغرف من حياضه بحسب سعة آنيتها ونقائها وأصالة معدنها.
كيف يمكن لدعوة من رجل مفرد، في ذلك التاريخ البعيد، في ذلك المكان المقفر، في طفولية البشرية تلك، أن يمتد صداها قويا حادّا، كأنها أُطلقت لتوها، إلى زماننا دون أن يشوش على ذبذباتها ضجيج الحروب التي سلطها أعداء الحق على أهل الله، ودون أن تضعفها أزمنة الشك والشرك والكفر والإلحاد والفتنة المتعاقبة، ودون أن تمنع الموانع وصولها إلى الناس كافة في كل فج عميق، لولا أن ذلك النداء كان مؤيَّدا بروح ربانية أقوى من آفات الأزمنة، وبمدد سماوي لا يقطعه كيد الشياطين، وبنور لا تحجبه كثافة الحجب التي تطمس فطر بني آدم.
وكيف لبيت حجري بسيط بني في واد غير ذي زرع، وبين شتات القبائل العربية المتطاحنة، وجفاء الأعراب الجفاة الأجلاف، أن يصير مهوى لأفئدة الناس، ومرقاة لأرواحهم، وترياقا لقلوبهم، ورمزا لوحدتهم في دنياهم، ومراما تقضى فيه حوائج آخرتهم، فيفيض عند رؤيته من مآقيهم ماء الشوق لدى عتباته، ويستسقون في كل ركن من أركانه لعطش مهجهم، يحنون إليه دوما فلا يهنأ لهم بال حتى يأووا إليه مرات ومرات كأنه موطنهم الأول، فيه ولدوا ونشأوا ومنه خرجوا إلى الحياة… كيف يكون ذلك لولا انتسابهم الروحي إليه؟
وكيف يمكن لحجر أسود أصم، لا يدخل اسمه في لائحة المعادن النفيسة التي تتقاتل الأمم ويتنافس المتنافسون لحيازتها وتسخيرها، أن يصير معشوق القلوب، تتمسح به هياما، وتقبل عليه صبابة، وتلثمه عشقا، وتتشممه ولها، أو تلوِّح له من بعيد بالتحية في تطوافها حول الكعبة، كيف يمكن لهذا الحجر أن يصير كما كان وكما أضحى وكما سيظل أبد الآبدين، لولا أنه خلق من مادة العشق الذي لا يفتر جمره مهما طال عليه الأمد؟
يتبع…