سبحان الله! هديةُ ليلةِ المعراج تتحول إلى ضَيفٍ على جوارحِ العبد وقلبهِ، ويصيرُ لها لساناً تتحدث به، وتمتلك قدرة وصفِ العبدِ لكمالِها أو نقصِها إذا خرجَت من كسبِه، لتصير لسجِلِّه وتُطوى إلى يومِ القيامةِ.
نقرأ قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ سورة المومنون.
فنجد أن الفلاح مكافأةٌ لعمل متكاملٍ للقلبِ فيه مكانَ الروح من الجسد، لكنه لنْ يكون أبداً عملا بدون إسهامِ الجوارحِ تلك المساهمة الأساسية 1.
فحركةُ الوضوء والطهارةِ، وحركة القيامِ والقعودِ، وحركة الركوعِ والسجودِ… في كلِّ ذلك تنبعث الحياةُ، وتستقيمُ صالحةً للشهادة للعبد أو عليه “إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا، قَالَتْ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، ثُمَّ أُصْعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَلَهَا ضَوْءٌ وَنُورٌ، وَفُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ. وَإِذَا لَمْ يُحْسِنِ الْعَبْدُ الْوُضُوءَ، وَلَمْ يُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقِرَاءَةَ فِيهَا، قَالَتْ: ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، ثُمَّ أُصْعِدَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ وَعَلَيْهَا ظُلْمَةٌ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا” 2.
اللَّهمَّ اجعل صلواتِنا وجميعُ أعمالنا حيةً بنورِ من فضلك تُسكنه قلوبَنا، فإن إقامة الصلاة حقَّ الإقامة عسيرةٌ إلا على من أكرمته بالخشوع، وملأت قلبه بيقين لقائك، يا رحمن. قلتَ، وقولك الحق: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِۖ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ اِلَّا عَلَي اَ۬لْخَٰشِعِينَ (البقرة، 44).
الخشوع! وما أدراك ما الخشوع!
إنه سكون القلب للمولى الكريم، ولين الجوارح لعظمته.
إنه أول علم يُختلَسُ منَ النَّاس؛ الصَّلاةُ آخرُ عروةٍ تُنتقضُ، والخٌشوعُ أولُ علمٍ يَمْضِي، عَنْ سيدنا أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: “هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ”، قَالَ: فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنِّي كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، هَذَا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا يُغْنِي عَنْهُمْ؟ قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الْجَمَاعَةِ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا” 3.
الناس في المسجد، والصلاة قائمة، والقرآن يتلى، وأين الخشوع؟ أين الروح؟ أين العلم؟
قال ابن القيم رحمه الله: “والناس في الصلاة على مراتبَ:
أحدها: مرتبة الظالِم لنفسِه المفرِّط، وهو الذي انتقَص مِن وضوئها، ومواقيتها، وحدودها، وأركانها.
الثاني: مَن يحافظ على مواقيتِها، وحدودِها، وأركانها الظاهرة، ووضوئها، لكن قَدْ ضَيَّعَ مجاهَدةَ نفسِه في الوسوسة، فذهَبَ مع الوساوس والأفكار.
الثالث: مَن حافَظَ على حدودها وأركانها، وجاهَدَ نفسَه في دفع الوساوس والأفكار، فهو مشغول بمجاهَدة عَدوِّه؛ لئلا يَسْرق صلاتَه، فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: مَن إذا قام إلى الصلاة أَكْمَلَ حُقُوقَهَا وأَرْكَانَهَا وحُدُودَهَا، واسْتَغْرَقَ قلبَه مُراعاةُ حُدودِها؛ لِئلا يُضيِّع شيئًا منها؛ بل همُّه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبَه شأنُ الصلاة وعبوديةُ ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس: مَن إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا، قد أخذ قلبَه ووضعه بين يدي ربه عزَّ وجلَّ، ناظِراً بقلبه إليه، مُراقِبًا له، مُمْتَلِئًا مِن مَحَبَّته وعظَمَتِه؛ كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلَّتْ تلك الوساوسُ والخطرات، وارتفعَت حُجُبُهَا بينه وبين ربه، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضلُ وأعظمُ مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغولٌ بربِّه عَزَّ وجَلَّ.
فالقِسم الأول مُعاقَبٌ، والثاني محاسَب، والثالث مُكَفَّرٌ عَنْهُ، والرابع مُثَابٌ، والخامس مُقَرَّبٌ مِن رَبِّهِ؛ لأن له نصيباً ممن جُعلَتْ قرةُ عينِه في الصلاة، فمَن قَرَّتْ عينُه بصلاته في الدنيا، قَرَّتْ عينُه بقُربِه مِن ربِّه عز وجل في الآخرة، وقرَّت عينُه أيضًا به في الدنيا، ومَن قرَّت عينُه بالله، قرتْ به كلُّ عينٍ، ومَن لم تقرَّ عينُه بالله تعالى تَقَطَّعَتْ نفسُه على الدنيا حسرات” 4.
اللَّهم صلِّ وسلم وبارك على من جُعلت قرة عينه في الصلاة، ومن علم صحبه الكرام علم الخشوع وورثهم إياه، قال التابعي الجليل، محمد بن واسع (ت: 123هـ): “ما بقي في الدنيا شيء ألَذُّ به إلا الصلاة جماعةً، ولقاء الإخوان” 5، وقال الإمام ابن المنكدر: “ما بقي من لذَّات الدُّنيا إلا ثلاثُ: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاةُ في الجماعة” 6.
الله أكبرُ فالصلاةُ عِمَادُ
للدين فيها للأنامِ رَشَادُ
الله أكبرُ يا مآذنُ كَبِّرِي
بفريضةٍ يهفو لها العُبَّادُ
اللهُ أكبرُ بالأذان تتابعتْ
يحلو لها بأذانِهَا التَّرْدَادُ
وبها ننال شفاعةً للمصطفى
يوم النشور وقد أتى الميعادُ
والناسُ بالكربِ الشديد صلاتُنَا
نورٌ لنا إشْراقَهَا نرتادُ
وننال من حوض الرسول المجتبى
رِيَّاً به للصالحين ودَادُ
صَلُّوا على خير الأنامِ وسَلِّمُوا
إنَّ الصلاة على الرسول سَدَادُ
في ليلة الإسراء لاح بريقُهَا
وبُرَاقُهَا للمصطفى مُنْقَادُ
بالقدس والرسل الكرام إمَامُهُم
طه به قد حَفَّت الأمجادُ
خمسٌ بخمسين الصلاةُ أجورُها
تهفو لها في الطيبات عِبَادُ
لصلاح أعمال يكون صلاحُها
وفَسَادُها إنْ سَادَنَا الإفْسَادُ
فاحذر من التفريط فيها إنها
للدين يا ابنَ الأكرمين عِمَادُ 7
[2] شعب الإيمان للبيهقي عن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[3] رواه الترمذي رحمه الله تعالى. كتاب العلم. باب ما جاء في ذهاب العلم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وقال حاصب تحفة الأحوذي: “ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان، وقد روي عن معاوية بن صالح نحو هذا، وروى بعضهم هذا الحديث عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم”.
[4] ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى، الوابل الصيب من الكلم الطيب، 34 و35.
[5] أحمد بن حنبل، الزهد، 254، ابن نعيم، حلية الأولياء، 6 /291.
[6] الغزالي، إحياء علوم الدين، 2/ 564.
[7] القصيدة للشاعر صبري الصبري.