الصلاة بالنسبة للمواكب النورانية هدية ربانية، ومسؤولية بشرية، من أهم وظائف النبوة إقامتها والدعوة إليها، والتوصية بها، يورثها السابقون للاحقين وبها يوصون، يدعون في خلواتهم وجلواتهم ببقائها في الزمن، ولذلك يسعون.
هذا نبي الله تعالى سيدنا إبراهيم عليه السلام يرفع القواعد التي اندرَست من أول مكان يصلَّى فيه، وهو يتضرع للمولى الكريم أن يجعل من ذريته من يحافظ على الصلاة يبقيها في الدنيا قائمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِيۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (إبراهيم 39-40).
وها هو سيدنا موسى عليه السلام يتلقى الخطاب الرباني بإقامة الصلاة إحياء لذكر المولى المجيد إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (طه 14).
وهذا الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل يعلن إقامة الصلاة بندا هاما من بنوده وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (البقرة 83).
قص علينا الله تعالى قصصهم في القرآن الكريم؛ سيدنا إدريس، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وشعيب، وأيوب، وذا الكفل، ويونس، وموسى بن عمران، وهارون، وإلياس، واليسع، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى بن مريم، عليهم سلام الله جميعا.
ومن غيرهم كثير لم يقصص علينا خبرهم، مدحهم سبحانه وتعالى: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (مريم 58).
ومن ضيع هذه الأمانة العطِية، المسؤولية الهدية، فقد محا اسمه من لائحة المواكب النورانية، مواكب المصلين فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (مريم 59).
ولقد ربط الله تعالى بين المبشرات العظيمة وبين الصلاة في كثير من القصص.
مريم العذراء الطاهرة العفيفة عنوان شرف النساء في القرآن الكريم، أوتيت الرزق الوفير، وهي في محراب الصلاة تناجي ربها الوهاب، قال جل شأنه: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (آل عمران 37).
استثمر النبي زكريا عليه السلام الحال الرباني ليتضرع للمولى الوهاب راجيا الذرية الطيبة فكانت البِشَارة في المحراب، قال تعالى: فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (آل عمران 39).
توارثت مواكب المصلين هذه العطية الهدية جيلا بعد جيل، رجالا ونساء، فرادى وجماعات، منهم من بنى مساجد ومصليات، ومنهم من أعلن صلاته، ومنهم من أخفاها، كلٌّ وما تيسر له. والأرض على ذلك شاهدة والسماء، والمولى الكريم لا يضيع أجر المحسنين، حتى جاء الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ليعلن الأرض مسجدا وطهورا، ولتصبح الشعيرة العظيمة محتضنة من الأصل الذي جاء منه المصلون، تبكي لانقطاع صلاتهم فوقها هي والسماء، وتفرح بهم حين الرجوع إليها فتضمهم ضم الأم الحنون لوليدها كما السماء تفرح بصعود أعمالهم الطيبة إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر 10)، ولا تبكي لا هي ولا السماء على غير المصلين: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (الدخان 29).
كل ذلك ولمَّا تفرض الصلوات الخمس على الهيئة المعروفة 1 بعدُ. إنما كانت الصلوات الخمس على ما هي عليه اليومَ بعد الإسراء والمعراج، فسبحان الذي أسرى بعبده، وصلى الله وسلم على من ناداه مولاه: كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب (العلق 19).