وأقم الصلاة | 8 | الله أكبر.. فاتحة الكتاب

Cover Image for وأقم الصلاة | 8 | الله أكبر.. فاتحة الكتاب
نشر بتاريخ

الله أكبر…

تلك افتتح بها المؤذن نداءه الهادي، ليقول للناس: “هلمُّوا للفلاح، هلموا للوقوف بين بيدي الله عز وجل، هي نفسها التي يرفع بها الإمام صوته وهو متوجه إلى القبلة، والناس من ورائه صفا مرصوصا، والناس في المساجد صفوفٌ، مع عامة المسلمين، الغني جنبا إلى جنب مع الفقير، الكبير بمحاذاة الصغير…

الله أكبر…

من كل شيء، لا يكبره شيء، الكل يخضع لعظمته، والمصلي يستسلم طوعا واختيارا ليستلهم منه العون والحول والقوة، فيعلن الوقوف بين يدي الكريم الكبير سبحانه، عن سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ” 1.

الله أكبر…

هي تكبيرة الإحرام، وكأني بالمصلي يُحرم كما يُحرم الحاج بلبسه الإحرام، فتحرم عليه أشياء كانت له مباحة، ويدخل في حُرمة حضْرة ربَّانية، ويفتح بينه وبين ربه، فحري به ألا يَلتفت عن محبوبه في الصلاة، أخرج الترمذي رحمه الله تعالى من حديث الحارث الأشعري: “إن الله أمركم بالصلاة، فإذا صلَّيتُم فلا تلتَفِتوا، فإن الله ينصِبُ وجهه لوجهِ عبده في صلاته ما لم يلتفت”، وعن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الله مُقبِلًا على العبد في صلاته ما لم يلتَفِت، فإذا صرف وجهَه انصرف عنه” 2، قال ابن القيم رحمه الله: “قد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: “ارفعوا الحجب بيني وبين عبدي”، فإذا التفت قال: “أرخوها”، وقد فسر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره، أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا…” 3.

الله أكبر…

ها هو العبد المؤمن، والأمة المؤمنة، ينتصِب قائماً بجسده المطيع للصلاة، وقد جاءها مُطهَّرا من ذنوبه بقطرات الوضوء المنيرة، وهو الآن حاضرٌ بِقلبِه وشفتيه ولسانه ليتلو أعظم ما أُنزل على أعظم من بُعث صلى الله عليه وسلم.

الآن؛ يطمع أكثر في مزيدِ تطهير المولى سبحانه، فيستفتِح بدعاءِ الاستفتِاح المأثور قائلا: “سُبحانكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، وتباركَ اسمُكَ وتعالى جدُّكَ، ولا إلهَ غيرُكَ” أو يقول: “اللَّهُمَّ باعِد بَيني وبينَ خطايايَ كما باعَدتَ بينَ المشرقِ والمغرِبِ، اللَّهمَّ نقِّني من خَطايايَ كَما ينقى الثَّوبِ الأبيضِ منَ الدَّنسِ، اللَّهمَّ اغْسِلني من خطايايَ بالماءِ والثَّلجِ والبردِ” 4.

الآن؛ وقد وجه العبد قلبَه لرب المسجد الحرام، ووجه وجهه شطر المسجد الحرام: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة، 150].

الآن؛ وقد ارتفعت الحجب بين العبد  وبين ربه عزَّ وجل، يتلو  أمَّ الكتاب مناجاةً لله تعالى.

الآن؛ وقد زاد المؤمن طهارة ونقاءً، يتلو سورةَ الفاتحةِ 5 السبع المثاني في حوار رائعٍ ماتعٍ بين العبد وربِّه، بمجامع الحمد له عزَّ وجل وحسن الثناء عليه، وجميل تمجيده سبحانه.

– “الحمد لله رب العالمين”… “حمدني عبدي”.

– “الرحمن الرحيم”… “أثنى علي عبدي”.

– “مالك يوم الدين”… “مجدني عبدي”، أو “فوض إلي عبدي”.

الآن؛ يرجو المصلي أن يخَلِّص العبادة للمولى العظيم، ويمحِّضَ  العون من المولى الكريم.

– “إياك نعبد وإياك نستعين”… “هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل”.

الآن؛ يرجو الهداية والاستقامة على طريق سيد المصحوبين صلى الله عليه وسلم من كانت قرة عينه في الصلاة، وسيد من مدح الله تعالى المعية معهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين،  ومن سادة مواكب المصلين بعده أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، و علي كرم الله وجهه، وكل محافظ على عماد الدين.

– “اهدِنا الصِّراط المستقيمٍ، صراطَ الذين أنعمت عليهم، غير المغْضُوب عليهم ولا الضَّالين” قال: “هذا لعبدي ولعبدي ما سأل” 6.  

ثم يأذن المولى في قراءة ما تيسر من كلامه تعبداً وتحصيناً واستشفاءً وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا. خَسَارًا [الإسراء، 82].

ندخل الصلاة قائمين، ونقف تالين متخشعين. ثم تأتي اللحظة الأولى من لحظات الانكسار بين يدي المولى؛ لحظة الركوع ومعاني الحمد والثناء.

الركوع والسجود راحة العابدين.


[1] ورد في فضل إدراك تكبيرة الإحرام أحاديث أخرى مرفوعة ولكنها لا تخلو من مقال. ينظر: “مجمع الزوائد” (2/123)، “التلخيص الحبير” (2 /27). وأما الآثار عن السلف في الحرص على إدراك تكبيرة الإحرام فكثيرة جداً،  قال ابن حجر: “وَالْمَنْقُولُ عَنْ السَّلَفِ فِي فَضْلِ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى آثَارٌ كَثِيرَةٌ” “التلخيص الحبير” (2 /131).
[2] رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، رحمهم الله تعالى.
[3] الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى. الثاني: التفات البصر. وكلاهما منهي عنه، ولا يزال الله مقبلاً على عبده ما دام العبد مقبلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره، أعرض الله تعالى عنه” ينظر الوابل الصيب من الكلم الطيب.
[4] ورد في صيغ دعاء الاستفتاح عبارات متعددة منها “وجَّهتُ وجهي للذي فطر السماواتِ والأرضِ حنيفًا وما أنا من المشركين. إنَّ صلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريك له وبذلك أُمِرتُ وأنا من المسلمِين”، و” اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وإسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بيْنَ عِبَادِكَ فِيما كَانُوا فيه يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِما اخْتُلِفَ فيه مِنَ الحَقِّ بإذْنِكَ، إنَّكَ تَهْدِي مَن تَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ”. ينظر في ذلك صحيح البخاري ومسلم، وسنن ابن ماجة.
[5] ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: “كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: “استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” ثم قال لي: لأعلِّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال: “الحمد لله رب العالمين” هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. وعن سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه، أي صوتاً كصوت الباب إذا فتح،  فرفع رأسه فقال: “هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملَك فقال: هذا ملَك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أُعْطِيتَه) رواه مسلم.
[6] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) وفي رواية: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي) رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة.