مفاهيم كبيرة قد يتخبط فيها المؤمن البسيط المتهمم، بين الواجب والمفروض، والعاجل والآجل، وبين الخلاص الفردي والجماعي، مع كثرة الجبهات وخاصة الظروف الحرجة التي تعيشها الأمة المكلومة المتكالب عليها من كل حدب وصوب، والتي لا تتطلب واجب وقت واحد، بل تستدعي واجبات كثيرة، والقيام بها ليس قاصرًا على فئة معينة دون أخرى.
“واجب الوقت” الذي نعيشه، يُحتم علينا اليوم بذل الجهد المطلوب، ويقتضي وضع حلول عاجلة لمعالجة القضايا الآنية والمختلفة، كل من خلال تخصصه ومجاله؛ سواء الدعوي، أو السياسي، أو الاجتماعي، أو الثقافي، أو الاقتصادي، أو الإعلامي وغيره.. “ففي أوقات الأزمات والأحداث الكبرى التي تمرّ بها الأمة؛ كمعركة طوفان الأقصى، يكون أهم تساؤل مطروح هو: ما المطلوب منا فعله؟ ويكون الجواب تحت عنوان: واجب الوقت؛ ألا وهو النصرة بكل أشكالها المطلوبة والممكنة.. وأثناء ذلك ينبغي إيقاف أو تأجيل أو تقليل الأعمال والبرامج الأخرى غير ذات الصلة، كي لا تُستهلك الأوقات والجهود والقدرات في غير واجب الوقت..” 1.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل” 2.
ويقول ابن القيم رحمه الله: “إن لكل وقت عبادته، وإن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الله في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.. والأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت. فمدار تعبده عليها، فهو لايزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها، واشتغل بها، حتى تلوح له منزلة أخرى، فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم، وإن رأيت أرباب الزهد وعكوف القلب على الله رأيته معهم، فهذا هو العبد المطلق..” 3.
وما فسد في قرون لا يصلح في شهور، والتحلي بالصبر وأخذ الامور بالتدرج وعدم التسرع واجب، فسنة الله -كما قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله- “ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة” 4.
وقد سُئل رحمه الله في لقاء بقناة الحوار في لندن، عن المطلوب من الأمة الآن والحال أن الحصار والقتل والدمار مستمر حتى الساعة.. فأجاب قائلا: “هذا تمحيص من الله سبحانه وتعالى وفرقان بين المنافقين والصالحين الصادقين من عباد الله، الصابرون في غزة يصيبهم ظمأ ويصيبهم نصب كبير، تصيبهم مخمصة وهو المجاعة الكبيرة ويطؤون موطئا يغيظ الكفار كل نهار، فموقعهم وموقفهم وصمودهم في غزة يغيظ الكفار وينالون به من عدوهم نيلا كبيرا، وكلها أعمال تكتب في صحائفهم، نسأل الله أن لا نكون من المتخلفين عن النصرة، وأن تنهض الأمة كما ظهر ذلك في بلاد العرب والعجم من المسلمين وغير المسلمين، هذه الهبة لنصرة أهل غزة، نسأل الله عز وجل أن لا يكون حظنا من الجهاد والمساهمة في نصرة أصحابنا وإخواننا في غزة أن نهب ونقوم ونذرع الطريق ونذرع الشوارع ونصيح ونلعن الكافرين اليهود، بل نساعد بكل ما أوتينا من قوة لكي نكون من الذين يغيظون الكفار” 5.
فالأمة في حاجة لكل الدقائق والسواعد؛ تبذل فيه جهدها للخروج من المحنة والمأزق وتعويض ما فات، و”حال الأمة لا يخفى على أحد، تلك الأمة التي كانت تقضي الوقت ما بين المسجد مع العلماء، وفي الجبال لترصد حركة الكواكب والنجوم، وفي المعمل تعدد الميكروبات وتصف الدواء، وفي الجامعات تضع علوم الجبر والفيزياء، وفي أروقة السياسة تسود العالم، وفي الحروب تفتح الممالك، وفي الظلمات تنشر العدل والحكمة وتفصل بين الناس وتعلمهم، تلك هي الأمة حين كانت تتمسك بتعاليم ربها، وتعلم قيمة وقتها وتستثمر كل دقيقه تمر، وليس كاليوم محنة مركبة تمر بها الأمة على المستويين الداخلي والخارجي” 6.
فالزمن يجري فوق الرؤوس، ولا يمهل الوقت أحدا أهمله، “إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي تعيش فيها كل الشعوب، والحقل الذي تعمل به، ولكن هذه الساعات -التي تصبح تاريخاً هنا وهناك– قد تصير عدماً إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها” 7.
فواجب الوقت أن نعير قيمته، ومن لا هدف له ولا وجهة ولا هم ولا اهتمام، لا يمكنه أن يقيم للوقت واجبه، ولا أن ينضبط عنده ميزان الأولويات، خاصة في وقت المحن والنوازل التي تتزاحم فيه الفروض والواجبات..
نسأل الله أن يلهمنا الصواب في القول والعمل ويهدي سبلنا ويهيئ لنا من أمرنا رشدا.
اللهم انصر هذا الدين ومكّن لجندك، إنك ولي ذلك والقادر عليه سبحانك لا حول ولا قوة إلا بك.
[2] ابن الجوزي، (صيد الخاطر).
[3] ابن القيم، (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين).
[4] عبد السلام ياسين، (سنة الله).
[5] عبد السلام ياسين، (حوارات مع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله).
[6] موقع بصائر.
[7] مالك بن نبي، (بين الرشاد والتيه).