فضيلة الصبر
خلق الصبر من أعظم الأخلاق التي جاء الإسلام لزرعها في قلوب أبنائه، فقد رتب على اكتسابه من الأجر والفضل ما لم يرتب على غيره من خصال الخير، يقول الباري سبحانه إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وأعلى مقام أصحابه فوق كل مقام، فكان السمة البارزة التي ميزت أولي العزم من الرسل على غيرهم، قال سبحانه يخاطب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم مثبتا ومصبرا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. ويستروح نسائم العزم كل من صبر على مطارق القدر وملك زمام نفسه ولم ينتقم لها فصبر وغفر رجاء أن يخرج الله من الأصلاب من يوحد رب الأرباب، ورجاء أن ينقلب العدو وليا حميما وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
سلك ناظم
والصبر خلق رفيع ينظم جميع مواقف المسلم وعلاقاته مع ربه عز وجل ومع نفسه ومع محيطه. يتجلى في صبر المؤمن نفسه مع المؤمنين مجاهدة وجهادا وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. وصبر العبد على طاعة الله ومن أعظم الطاعات الصلاة وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا. ومن الصبر الموجب للخيرية صبر الزوج على زوجه؛ يقول خير البرية صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” 1 . ومنه صبر العبد على المصائب وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون.
صبر أكبر
هو صبر “أكبر” قياسا على الجهاد الأكبر، إذ هو لازمة من لوازمه، فما ترقى من ترقى في مدارج الإيمان والإحسان إلا بصبر على مجاهدة النفس في ذات الله تعالى. صبر على أداء الفرائض، وهي أحب ما يتقرب به إلى المولى عز وجل، وصبر على دوام التقرب بالنفل بغية بلوغ درجة المحبوبية، وبغية صلاح المضغة التي بصلاحها يصلح البذل والعلم والعمل والسمت ويتحقق الصبر على القصد وعلى الجهاد. يقول الإمام ابن القيم في هذا النوع من الصبر: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزل معها أين استقلت مضاربها . فهذا معنى كونه صابرا مع الله، أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين) 2 .
رُب صادق بدأ خطواته الجهادية بطفرة إيمانية وحماس موقوت، ما لبث أن اغتالته نفسه وشيطانه، فنسي ذكرَ الله وذكر الآخرة ومحاسبة النفس ومراقبتها و”صَبْرَها” فبلِيَ إيمانُه، وعصرته النفس وأناخت عليه بكلكَلِها، فذهب مع الزبَد، مع المنافقين الذين لا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين.
صبرُك النفسَ يا أخي، يا حبيبي، هو حَبْسُك إياها، وقتالك لعنفوانها. إنهُ جهاد. وقد جاء في حديث رواه الترمذي عن فُضالَةَ بنِ عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المجاهد من جاهد نفسه”.) 3
موارد الصبر
إن خلقا هذا فضله وهذه مزيته لقمين أن تبذل في طلبه المهج وتستغرق في التربية عليه الأعمار، فهو من الندرة بحيث قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: “إنَّ مِن أقلِّ ما أوتيتُم اليقين وعزيمة الصبر، ومَن أُعْطِيَ حظه منهما لم يبالِ ما فاته من قيامِ الليل وصيام النهار” 4 ومن السبل التي يسلكها المسلم لاكتساب هذا الخلق العظيم:
• الدعاء ودوام التضرع إلى الله تعالى أن يفرغ على القلب صبرا ويثبت الأقدام، فهو سبحانه الرب الكريم مالك القلوب. والموفَق من هُدي إلى الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: “واصبر وما صبرك إلا بالله” يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر) 5 .
• صحبة الصابرين؛ إذ الصبر دين، والمرء على دين خليله) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك شيء أنفع للقلب من صحبة امرئ يخاطبك بلسان حاله ومقاله أن: 6 أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا
وترقى إلى العليـاء غير مزاحم
عيك بحسن الصبر في كل حــالة
فما صـابر فيمـا يروم بنادم• التصبر بمجاهدة النفس وإرغامها على الصبر فقد قال صلى الله عليه وسلم: “من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر” 7 .
• مطالعة سير الصابرين بدءا بأشرف الخلق رسل الله عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومرورا بالصالحين من هذه الأمة سلفا ومعاصرين. وإنه لفضل عظيم أن يخرج المرء وهو ينظر في حياة الصابرين بعقل نير وهمة عالية وفؤاد ثابت على الحق مستنير وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.
وفي الختام قطف من قطوف أهل الصبر والمصابرة والإحسان: 8 اصبِرْ مع المولى ولا تعدِلْ به أحدا فصَبْرُكَ يقتضي إحسانَه
واصبِرْ مع الإخوان وادْعُ بنهجِهِمْ قد جاء نُكْراً من جفا خلاَّنَه
صابرْ ورابِطْ في خيامِ جِهادهم تُلْبَسْ من التقوى غداً أردانَه
إني رأيت الصبر يوفى حقَّه وعواقبُ الحسنى له، إبَّانَه
من كان ذا عزم تواصل صبرُهُ وطوى بقبضةِ عزمه شيطانَه
ما الصبر أن ترضى تعسُّفَ ظالمٍ تعْنُو إليه وترتَضى بهْتَانَه
صلى الإله على النبي محمد وبِنَصْرِهِ الأجْلى حبَا إخوانَه