اتضح اليوم وبالملموس عند فئة عريضة من رجال ونساء التعليم أن أزمتهم أعمق بكثير مما كانوا يتصورون، وأنها مرتبطة ارتباطا مباشرا ببنية حكمٍ مغلقة ومتخلفة لا تعرف من مناهج الإدارة إلا القمع والتخويف والإذلال، واسألوا الأساتذة عن أساليب السحل والاقتطاع والتوقيف.
ليس من المفترض ولا من الطبيعي أن تكون علاقة المواطن بدولته قائمة على العنف. نعم، أحيانا تلجأ الدولة إلى القمع للحفاظ على الأمن العام، لكنها سرعان ما تعود إلى ذلك الأساس المتين، أساس الحوار المسؤول الذي يليق بدولة تسوس آدميين يتمتعون بشيء اسمه “الكرامة”.
خرج أمسِ رجال ونساء التعليم يطالبون بحقوقهم بإصرار كبير لم نعهده من قبل، وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول بعض المطالب أو حول وتيرة الاحتجاج غير أن ما وقع في الشهور الأخيرة يخبرنا أنّ جسد التعليم يعيش حنقا حقيقيا، وأنّ من واجب الدولة الإنصات إليه لإيجاد الحلول المناسبة.
لكن، وكما كان متوقعا عند من خبروا الأساليب المخزنية، لم تجد الدولة في آخر المطاف من حلول سوى أن تجهز على الأساتذة بسلاح فتاك لا قبل لهم به، سلاح التوقيف عن العمل مع إيقاف الأجرة، وقد قيل: قطعُ الأعناق ولا قطع الأرزاق. توقيفات بالجملة في انتهاك فظيع لحقوق الموظف الأساسية، فماذا عساه أن يفعل الأستاذ إزاء هذا البطش الشديد؟!! هل يستمر في الاحتجاج ويتشرد هو وعائلته؟!! يا فخرنا بمسؤولينا وبإنجازهم العظيم!!
إن هؤلاء المسؤولين وهم يقصفون الأساتذة بهذه الطريقة الرعناء، يقصفون من حيث لا يدرون (أو يدرون) ثقة المواطن بدولته. وعلى منوال ما جاء في المثل الشعبي: “قال ليه شمتك، قاليه عرفتك”، يحق للأساتذة اليوم أن يتمثلوا القولة التالية: “قال ليه طحنتك، قال ليه عرفتك”.
نجح الأساتذة -عن غير قصد- في أن يُظهروا لنا مجددا حقيقة طبيعة السياسة عندنا، وضرورة إدراك أنه لا إصلاح يُرجى في ظل عقلية حكمٍ لا تنظر إلى المواطن إلا من أبراج التسلط، ومن “أعالي” غرور القوة والنفوذ.
يتأكد للأسف مع كل تجربة نضالية، قطاعية كانت أو فئوية، أن مشكلتنا الأولى تتلخص في تفشّي وباء السلطوية وغياب الديمقراطية، كل الطرق تؤدي إلى هذا الاستنتاج. إنّ أزمتنا قبل أن تكون في ضعف الوسائل والإمكانيات هي بالأساس في وجود سلطة مطلقة منفصلة عن هموم ومعاناة الشعب، وقد قيل: “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”. كيف سيرعوي أصحاب القرار عن نهج سياسة الاستخفاف بحقوق المواطنين ولا رقيب عليهم ولا حسيب؟!
سنظل واهمين وعبثًا نحاول إذا لم نستوعب جيدا هذه الدروس. إنّ المنطلق الصحيح للنهوض بأوضاع مجتمعنا المختلفة والمتدهورة يتمثل في تبني فئات واسعة من الشعب المغربي لمشروعٍ شاملٍ للتغيير، يكون في صلبه وعلى رأسه مسألة الديمقراطية. الديمقراطية بما هي تعاقد جديد بين الدولة والمواطنين يقوم على خدمة الدولة للمواطنين (وليس العكس)، عبر الارتقاء بأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وبما هي أيضا طريقة جديدة في إدارة الدولة، من شأنها أن تُوفر للمواطنين آليات تجعل لإرادتهم معنى، وتربط المسؤولية بالمحاسبة.