ولنا كلمة: “وثيقة الرباط: الإيمان في عالم متغير” في ميزان غزة

Cover Image for ولنا كلمة: “وثيقة الرباط: الإيمان في عالم متغير” في ميزان غزة
نشر بتاريخ

تتناوب عدد من العواصم العربية الإسلامية منذ سنوات في احتضان مؤتمرات حوار الأديان، تدعو في مجملها إلى التقارب بين مختلف الأديان، وتفعيل المشترك فيما بينها، وإصدار توصيات تنص على السلم العالمي وتحث على التسامح واحترام الآخر ونبذ العنف والتطرف.

وقبل أيام احتضن أحد أفخم فنادق الرباط مؤتمرا دوليا جمع الأديان المختلفة في شخص عدد من العلماء والمفكرين والديبلوماسيين، واشترك في التنظيم الرابطة المحمدية لعلماء المغرب ورابطة العالم الإسلامي. واختير “الإيمان في عالم متغير” شعارا للمؤتمر بسطت مضامينه من خلال عدد من الجلسات العلمية والورشات. واختتم المؤتمر بإصدار وثيقة سميت “وثيقة الرباط”.

وحق لنا أن نسائل المؤتمر ومنظميه عن الوثيقة ونضع توصياتها في الميزان بمنظور الشرع وضوابطه وأولوياته، ونستحضر القرائن التي تسعفنا لمعرفة طبيعة المؤتمر وخلفياته وسياقه الخاص والعام.

– تزامن المؤتمر مع توالي صرخات أهل غزة واستغاثتهم بالأنظمة والعلماء، فهم يُهجَّرون من أرضهم عبر تدمير المدن ونسف المنازل، وتُستهدف مصادر المياه بالقصف، ويُجوع الناس بمنع إدخال الطعام، وتَزيد معاناة الجرحى بمنع دخول المساعدات الطبية، وتُستهدف مراكز الإيواء، ويتم القضاء على مظاهر الحياة، فقد استفرد العدو بأهل غزة، وهو يتفنن في إبادته الجماعية، وقد خلت توصيات “وثيقة الرباط” من ذكر غزة وأهلها ولو بالضمن. ودعم المسلمين المستضعفين المظلومين واجب ديني يعلمه العلماء جيدا “وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر”، فعن أي “إيمان في ظل عالم يتغير” يتحدث هؤلاء العلماء؟

– دعت الوثيقة إلى التضامن بين الشعوب، واعتبرته السبيل الأمثل لمواجهة التحديات العالمية الكبرى، فهل دعا كل عالم شعبه للتضامن مع شعب غزة وفلسطين، هل حث كل عالم وحرض على نصرة أهالي غزة المظلومين المكلومين، أم أن أهل غزة وفلسطين ليسوا شعبا، وبالتالي لا تنسحب عليهم التوصية، ولا ينطبق عليهم معنى الجسد الواحد، ومفهوم الولاية والنصرة بين المؤمنين؟

– دعت وثيقة الرباط إلى الرقي بالعمل الإنساني وإقامة المشاريع الإغاثية، ويعلم علماء مؤتمر “الإيمان في عالم متغير” أن أهل غزة وفلسطين أولى الناس على هذه البسيطة بالعمل الإنساني، فقد أجمعت المنظمات الإغاثية العالمية أن الوضع في غزة إنسانيا أصبح كارثيا، وغير قابل لأبسط متطلبات الحياة، وقد عمل الكيان المجرم على تدمير مدارس الأونروا ومخازنها، واستهداف المئات من العاملين بها، وتم منع الآلاف من الجرحى والمصابين بحروق من مغادرة غزة للتداوي في الخارج، وأغلقت المعابر في وجه المساعدات الإنسانية. وقد صم المؤتمرون آذانهم وغضوا أبصارهم عن هذا الاعتداء الشنيع، فعن أي إيمان تتحدثون يا علماء المؤتمر؟!

– نصت توصيات الوثيقة على “حفظ كرامة الإنسان وصيانة حقوقه وحرياته المشروعة والاعتراف به وجودا وحضارة أيّا كانت هويته الدينية والوطنية”. أهل فلسطين ديست كرامتهم، وهضمت حقوقهم، بل اعتبرت بعض الدول الغربية ومنها أمريكا وانجلترا وألمانيا دمهم مباحا فاعتبرت كل الأماكن التي يحتمل وجود المقاومين فيها استهدافها مشروعا، فلم تبق حرمة لأي مكان في قطاع غزة لا مدارس ولا مساجد ولا مستشفيات، فأي إيمان وأي دين تتحدثون عنه أيها العلماء؟!

– كررت وثيقة الرباط لازمة مؤتمرات حوار الأديان فدعت إلى “المبادئ الأساسية التي تؤسس لسلام العالم وازدهار مجتمعاته وتشجيعها على التسامح والوئام والعدل والتراحم”. يرى عامة المسلمين المجازر في غزة يوميا، في أبشع صورة، وبأفتك الأسلحة، وأرقام عدد الشهداء في تزايد مضطرد، والجرحى والمفقودون يُخطئهم العد، وجغرافية غزة وملامحها تغيرت بنسب كبيرة، والتجويع والتهجير في كل وقت وحين، والمستشفيات خرجت جلها عن الخدمة، وكل ذلك بضوء أخضر من الغرب سرا وعلنا، وخذلان غير مسبوق من الأنظمة العربية والإسلامية. وفي الوقت ذاته تخاطبون الناس -يا علماء المؤتمر- وتدعونهم إلى الوئام والتسامح والتراحم، ألا تعتقدون أن ما يفعل بأهل غزة وفلسطين منشئ للكراهية محرض على العنف والتمرد، ومشكك في قيم التدين الذي تتحدثون عنه؟!

– قالت الوثيقة “إن الإنسانية عائلة واحدة” واعتبرت أن هذا المؤتمر “تجمع استثنائي يجسد أهمية الدين المحوري في توجيه الحياة العامة بما يحمله من قيم باعثة على التآخي الإنساني”. لما تقف معظم الدول الغربية صفا واحدا إلى جنب الكيان الغاصب المحتل، وتعتبر أمنه من أمنها، وتُجمِع على إلباسه لباس الدفاع عن النفس افتراء وإفكا، وتصف المدافعين عن أرضهم وعرضهم إرهابيين، ويكتفي باقي العالم بالتفرج على الإبادة الجماعية، تتقدمهم الأنظمة العربية الإسلامية المطبعة والمتخاذلة، فقد كشف طوفان الأقصى مبادئ الغرب وفضح زيف شعاراته، وصار مجلس الأمن يعطل الحق والعدل ويماري فيه. فهل تعكس هذه الصورة ما وصفتموه يا علماء المؤتمر “الإنسانية عائلة واحدة” فعن أي دين وعن أي إيمان تتحدثون؟!

لسنا ضد الحوار مع الغرب أو أهل الأديان الأخرى، ولسنا بحمد الله من يجحد المشترك الإنساني، ولا يهمنا الحديث عن علماء بأشخاصهم وأسمائهم، وإنما نهتم بأفعالهم ومواقفهم وتبريراتهم، إذ يعز علينا أنهم فقدوا بوصلة فقه الأولويات، وواجب الوقت، وبُعدهم عن آمال الأمة وآلامها، وعن واقعها وقضاياها. بل نحرص أن يدوروا مع القرآن حيث دار، ونرجو أن يبلغوا للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولا يخافوا في الله لومة لائم، وإن قُدِّر لأحدهم أن لا يقول الحق ولا يأمر بالمعروف كما أخذ عليه الميثاق، فليحذر أن يقول باطلا أو يصفق له. نسأل الله أن يعافينا وإياهم من داء الوهن وقد فسره المصطفى صلى الله عليه وسلم بحب الدنيا وكراهية الموت.