وراء كل عظيم امرأة.. هكذا أردت أن أعنون هذه الحلقة، وقد اخترت لكم امرأة عظيمة بكل المقاييس، ولعل البحث في كتب السير والتراجم عن تفاصيل حياتها ومناقبها وفضلها لا يسفر إلا عن النزر القليل مما تميزت به من حنكة وحكمة وفضل وعطاء، وقد هيأت الجو من بيتها بالتشجيع والتحفيز والبذل نحو بلوغ المعالي.
إنها عالية بنت شريك الأزدية، أم الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهم جميعا. استقرت بالمدينة المنورة رفقة زوجها، وعاشت مطمئنة هادئة مستقرة إلى أن سافر في تجارة وغاب غيبة طويلة. هنا تبدأ رحلة الأم مع الابن، لتأهيله وتعليمه ولتصنع منه رجلا له شأن في الأمة، ففي سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله تعالى، ذكر أن السيدة عالية أرادت لابنها أن يسير مسار العلماء وعلى نهجهم، فكانت تلبسه لباس العلم وتعممه وترسله لحضور مجالس العلم في مدينة رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام، وأول ما بدأت به تحفيظه كتاب الله سبحانه وتعالى في سن مبكرة جدا، فجعلته يتوافد على المسجد ويحضر مجالس العلم بالرغم من أنه كانت له موهبة الغناء آنذاك، كان يافعا وكان يطمح أن يقتدي بعدد من المغنين معتقدا أن هذا هو أيسر طريق للاغتناء، إلا أن الأم بفطنتها وذكائها وحنكتها استطاعت أن تصرفه عن هذه الموهبة إلى القدوة الأسمى والأفضل والأنجع وهي طلب العلم والتضلع فيه.
فجعلت هذا الشاب اليافع يتقلب في مدارج العلم من شيخ إلى آخر، وكانت تقول له “اذهب إلى ربيعة الرأي فتعلم من أدبه قبل علمه”، ففطنة هذه المرأة جعلتها تربط بين الأدب والعلم؛ فلا علم بدون أدب ولا أدب بدون علم.
وقد ورد في الأثر أنه تعلم على ما يناهز 900 شيخ، ولما نضج فكره واكتمل عقله اشتغل بالفتوى والحديث، وكان يتوافد عليه عدد كثير من طلاب العلم في المسجد، وكذلك من العلماء والفقهاء، فأثنى عليه وبمجلسه الذي كان يتميز بالوقار والسكينة والهيبة، وكان يقال عنه “لا يُفتى ومالك في المدينة”، الإمام الشافعي حين قال “إذا ذكر العلماء فمالك النجم”، نعم، كان نجما بكل ما تحمل الكلمة من معنى؛ كان قدوة فهما وعملا وسلوكا، ولعل الفضل يرجع لهذه الأم، التي زرعت البذرة وسقتها من نبع حنانها وعطفها حتى ترعرعت وكبرت وأينعت فحررت الإرادة والمبادرة.
الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وأرضاه كان بارعا في علوم عدة؛ في تفسير القرآن وتجويده، في علم الكلام، واللغة والنحو.. ومجموعة من العلوم. وكانت له مؤلفات عدة يزخر بها التاريخ الإسلامي، منها: تفسير غريب القرآن، وكتاب في حساب الزمان ومنازل القمر، ولعل أشهر مؤلفاته “الموطأ” الذي استغرق تأليفه ما يناهز أربعين عاما، ويحتوي على عشرة آلاف حديث.
لم يقف الإمام مالك عند هذا الحد، بل كان يلقب بإمام دار الهجرة، وبإمام الأئمة، لكثرة أعلام الأمة الذين كانوا يتوافدون على مجالسه.
فهذه الأم الصالحة وعت معنى التربية واستوعبت معنى الأمومة، وأعطت للأمومة معناها الحقيقي؛ هي رسالة وأمانة ومسؤولية. فاللهم تقبلها عندك في الصالحين، وتقبلها في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
https://www.facebook.com/femmejs/videos/2669431716601559/