ورابطوا..

Cover Image for ورابطوا..
نشر بتاريخ

عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل علي أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا؟ قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: (اصبروا) أي: على الصلوات الخمس (وصابروا) على أنفسكم وهواكم (ورابطوا) في مساجدكم (واتقوا الله) فيما علمكم (لعلكم تفلحون).

ربنا الكريم سبحانه دل المومنين المكلفين بحمل أعباء الأمة على سبيل الفلاح في مهماتهم الدنيوية لإقامة مجتمع العمران الأخوي الذي جاء ببشراه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإنسانية جمعاء، سبيل عنوانه صبر النفس الأمارة بالسوء المفتونة ببهجة الحياة الدنيا الصادة صاحبها عن فعل الخيرات مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وفضله ورضاه، سبيل موضوعه المصابرة بمعنى اقتحام العقبات التي تعيق السير إلى الله عبر التخلق بأخلاق القرآن الكريم الذي كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إلا أن هذا الصبر وهذه المصابرة جعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم محضنا سماه رباطا، تحنث فيه الليالي ذوات العدد في غار حراء؛ حيث كان يعتزل ليتفكر ويتعبد الله بذكره قبل أن يأتيه سيدنا جبريل ببشرى الوحي، واستمر الأمر بعدها مع الصحابة الكرام في دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، ثم مع أهل الصفة بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة، ما يجعل من الرباط سنة نبوية ثابتة ومدرسة تربوية خالدة تخرج منها أجيال من رجال هذه الأمة الأفذاذ الذين بصموا تاريخنا بمداد العزة والإباء.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “تقتضي الاستقامة، ويقتضي الاتباع للهدي النبوي، أن يكون الرباط في حضن التربية مرحلة تهييئية لتدريب الدعاة على بسط الوجه واليد ومادة الرفق وكلمة الخير وبشارة الفرح على المجتمع قاطبة” 1. فالرباط في زماننا ليس هروبا من واقع الفتنة ولا رهبانية تزهد في المباح ولا خلاصا فرديا أنانيا يكتفي من الدين بجانبه التربوي دون كمال السنة الغراء، بل محطة للتطهر من الأدناس والتزود من الأنوار والتدرب على الفضائل للحاق بركب الرجال؛ أهل الله المكلفين بحمل أعباء الدعوة إلى الله قبل تحقيق الاستخلاف المنشود.   

التدريب المقصود في الرباط

* يبدأ بالنية الصالحة الجامعة العظيمة، نية الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها” 2، ثم الفوز بأعلى ما هنالك النظر إلى وجه الله.

* تثبيت أعمال يوم وليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتداء من إتقان العبادات اليومية: المحافظة على الوضوء، استقبال القبلة مع حسن التوجه إلى الله، دوام ذكر الله بالصيغ والأوراد السنية، إكثار من قول لا إله إلا الله ومن الصلاة على رسول الله ولزوم للاستغفار والأذكار التحصينية، والصلوات المفروضة والراتبة في أوقاتها، قيام الليل وجلسة الشروق مع إحياء سنة قص الرؤى.

* تعلم دين الله من خلال مدارسة كتاب الله استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم “وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” 3.

* التحاب في الله شرط الإيمان الذي ذكره الحبيب في حديثه الذي أقسم فيه: “والَّذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا، أولا أدلُّكم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحاببتُم؛ أفشوا السَّلامَ بينَكم” 4. سلامة القلوب من الغل اتجاه الذين آمنوا تصافيا في الله درجة أولى يتبعها الوفاء والفداء والفناء تحابا في الله.

* دعاء الرابطة: وفاء لمن تربطنا بهم رابطة المحبة والجهاد في سبيل الله عبر الأزمان إحياء لسنة من سنن الصحابة الكرام الذين كان يدعو الواحد منهم لسبعين من أصحابه.

والثبات على سنة الرباط يورث ربطا على القلوب الطاهرة كما ربط الله على قلوب الصادقين في رباط الجهاد مع رسول الله إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ؛ قال السعدي: ليثبت القلوب قبل الأبدان. أو كما ربط الله على أصحاب الكهف وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إلها لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا؛ أي قوّينا قلوبهم بالإيمان والثبات عليه. أو كما وقع مع أم سيدنا موسى وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بمعنى لولا أن عصمناها من ذلك بتثبيتنا إياها وتوفيقنا لها.

تثبيت وتوفيق وعصمة وتقوية للقلوب المقبلة على الله في الرباط جزاء وفاقا من رب كريم. والحمد لله رب العالمين.


[1] عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ص 54.
[2] صحيح البخاري: (4/ 43).
[3] أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر برقم (2699).
[4] أخرجه مسلم (54)، وأبو داود (5193)، والترمذي (2688)، وابن ماجه (68) واللفظ له، وأحمد (9709).