ترتبط مرحلة الشباب عند البعض بالجنوح نحو الترفيه والاستمتاع واستغلال الأوقات في الاستراحة والمتعة، لأنها وفق منظورهم مرحلة مؤقتة سرعان ما تنقضي ليدخل الإنسان بعدها في دوامة المسؤوليات والعلل والأمراض وانشغالات العمل.. وغيرها كثير، كما ترتبط بالنزقية والطيش والاستهتار مع تسويغ ذلك بسبب رعونة مرحلة الشباب وإكراهاتها.
نعود إلى العنوان الذي بين أيدينا، وهو عبارة رددها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح ذكر فيه السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن بينهم شاب نشأ في عبادة الله 1.
يقال “البداية أكثر من النصف في كل شيء”، ومثلها ما جاء عن ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: “من أشرقت بدايته أشرقت نهايته”، في إشارة إلى ما تصنعه البدايات من تعلم وانضباط والتزام وثقة تتجذر في فؤاد الفتى والفتاة، فتنطبع في قلبيهما، فتكون النواة التي ينبني عليها الطريق..
أكيد أن الحرص على العبادات وتكلف الطاعات، وتحمل مشاق طلب العلم، والتصبر على الأخلاق والفضائل، دائما يكتنفه النفور بداية، غير أن النفس سرعان ما تألفه وتتعوده ليصير بعد ذلك منهجا في الحياة. وقد امتدح المولى عز وجل في كتابه أصحاب الكهف بقوله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى 2. وقال عز من قائل في نفس السورة: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ 3. وقد نزلت في فتية دار الأرقم بن أبي الأرقم، الذين قامت على سواعدهم أسس الدعوة الإسلامية، أمثال عمار بن ياسر وبلال بن رباح وعبد الله بن مسعود… رضي الله عنهم أجمعين.
ولعل السيرة والتاريخ حافلين بقصص الشباب الذين أسهموا في بناء صرح الأمة والعمران الإنساني.
نعود إلى عبارة “وشاب نشأ في عبادة الله” التي تحمل في دلالاتها عِبرا وأسسا عميقة، ينبغي لكل شابة وشاب أن يستنبط معانيها ليحظى بالفوز الأخروي والدنيوي أيضا.. فقد تفهم العبارة عكسيا؛ فيرى فيها أصحاب النفوس الجاهلة حرمانا من ملذات الحياة وقيدا يحد من انطلاق الشباب.. وما شرع الدين الحنيف شيئا إلا وفيه مصلحة النفس والروح والجسد معا، وما تخبط المرء في الرذيلة و المعاصي إلا غرق في مستنقع الشر والرذائل والمهالك..
الطاعة سياج من نور وليس من شوك؛ يحمي شبابنا ويربيهم على الفضائل والمكرمات، فتتفتح أعينهم على تقوى الله وينشؤون في جو تسوده السكينة والاطمئنان.
يقول الشاعر أبو العلاء المعري:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا
عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن
يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ
وفي هذا المعنى نجد حرص الوالدين على أطفالهم، وذلك بزرع الأخلاق والقيم الفاضلة فيهم منذ الصغر، التي تؤثر على حياتهم إيجابا في المستقبل وتُحدث فيهم خيرا ومنفعة عظيمة، لو علم بها الأبناء لما تذمروا واشتكوا وقابلوا ذلك بالعصيان والرفض، بدعوى بعضهم أن والديهم لم يكونوا في شبابهم بالطهر و العفاف والاستقامة التي يطالبون بها أبناءهم، وما علموا غصص الندم والحسرة التي تعتصر قلوبهم على كل لحظة أو ساعة مرت بهم في غفلة عن الله، وما دروا بكَمِّ الألم الذي يخالجهم لأنهم لم يجدوا من يأخذ بأيديهم إلى الله، ولم تكتنفهم بيئات ربانية ترشدهم نحو الحق في ظل الجهل بالدين ومخلفات الاستعمار… وغيرها، فأرادوا استدراك مافات بانتشال أبنائهم وبناتهم من براثن الظلمة والمعاصي..
“شاب نشأ في عبادة الله” عبارة جليلة، تشع جمالا ونقاء، كيف لا وهي قبس من مشكاة النبوة، تقطر طهرا، وتعلم شبابنا وشاباتنا أن الحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله؛ لأن الحياة محطات وتجارب وفتن ومراحل وسلوك وصبر ومصابرة إلى أن تصل إلى الله تعالى، أما الموت فهو لحظة تختصر بك الطريق والسبل.
وهي دعوة لكل الآباء والأمهات بنذر أبنائهم وبناتهم لله تعالى، حتى يحفظهم بعينه التي لا تنام وبكنفه الذي لا يضام مرددين ما صدحت به زوج عمران، أم مريم بنت عمران عليهما سلام الله وعلى آل عمران أجمعين إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 4. فلقد وهبت ما في بطنها لله تعالى ولخدمة دعوته قبل أن تعرف جنس جنينها، في إشارة إلى الرضا واليقين المطلق بأن الله هو حافظ هذا الجنين وهو المتكلف به، وهو صانعه على عينه، فينشأ في كنفه، كما نشأت مريم بنت عمران في محاريب السجود ومنارات الهدى والعفاف.
[2] الكهف: 13.
[3] الكهف: 28.
[4] آل عمران: 35.