اهتم الإسلام بتربية الأبناء، وتنشئتهم النشأة الصالحة، وأعطى الوالدين حق الوصاية على الأبناء، ومعناها أن الآباء أوصياء من قبل الله عز وجل على أولادهم من ناحية الرعاية الصحية والمعيشية والعقلية والقلبية. فالتربية في اللغة أن تغدي الطفل ليربو، ثم انتقل معناها من الحقيقة إلى المجاز فأصبحت تدل على رعاية الجسم والعقل والخلق. فما أجمل الإسلام وما أسمى تعاليمه الحكيمة التي تدعو إلى تربية الأفراد على أساس من الفضيلة والأخلاق الحميدة، وتدعو أيضا إلى النصح والإرشاد، وتهتم بتنشئة الجيل الإسلامي تنشئة عالية تبعد عنه روح الميوعة والفساد والأهواء.
التربية الإيمانية هي نبع الفضائل، وهي الركيزة الأساسية لدخول الأبناء حديقة الإيمان، وقنطرة النجاة من أنياب الدنيا وملذاتها ومفاتنها، فنصحهم يرسم لهم طريق السلوك الصحيح في الحياة، وإرشادهم يجنبهم المزالق والمواقف المهلكة، ولا يغيب عن إدراكنا أن هذا النصح يجعل العلاقة بين الآباء وأبنائهم علاقة ودية دافئة منبعها الحب والاحترام والحنان، فيشعر الأبناء أنهم موضع اهتمام وثقة وثبات. ولا ننكر أن تربية الأولاد مسؤولية شاقة بالخصوص في فترة المراهقة، وهي الأشد خطورة في حياة الإنسان؛ إذ تحتاج حكمة من الأبوين وتغيير الطريقة التربوية والتوجيه، وتحتاج عناية فائقة، فلا يجدي الجدال وعدم الانسجام والخلاف والصراع في هذه المرحلة، بل يجب أن يولوها الآباء كل الاهتمام والمراقبة، فسوء المعاملة مع المراهق وعدم احترام شخصيته قد يقوده إلى الإساءة إلى والديه والناس، وتكوّن عقدة النقص عنده، والتضييق عليه في التعامل وحرمانه المادي قد يجره إلى الكذب والاحتيال والسرقة، لذا من الضروري أن يرسم الأبوان منهاجا تربويا إسلاميا ثقافيا لأبنائهم منذ الصغر، بمراقبة سلوكهم وإسداء النصائح لهم عندما تظهر عليهم بعض الآثار غير السليمة.
وهناك الكثير من الأمثلة والعبر في هذا الشأن، فالقرآن الكريم يحكي لنا قصة سيدنا إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، إذ ضربا لنا مثالا في الصبر على قضاء الله، قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ اُ۬لسَّعْيَ قَالَ يَٰبُنَيِّ إِنِّيَ أَر۪يٰ فِے اِ۬لْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَر۪يٰۖ قَالَ يَٰٓأَبَتِ اِ۪فْعَلْ مَا تُومَرُۖ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اَ۬للَّهُ مِنَ اَ۬لصَّٰبِرِينَۖ (الصافات، 102)، تظهر الآية الطاعة التامة للابن الصالح اتجاه أبيه الصالح. ومن أشهر الوصايا؛ وصايا لقمان الحكيم لابنه المبثوثة في سورة لقمان، قال عز من قائل: يَٰبُنَيِّ أَقِمِ اِ۬لصَّلَوٰةَ وَامُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَيٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ اِ۬لُامُورِۖ (16) وَلَا تُصَٰعِرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِے اِ۬لَارْضِ مَرَحاًۖ اِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٖ فَخُورٖۖ (17) وَاقْصِدْ فِے مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَۖ إِنَّ أَنكَرَ اَ۬لَاصْوَٰتِ لَصَوْتُ اُ۬لْحَمِيرِۖ (18).
ولا يفوتني أن أذكر أيضا نصيحة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو من رجال هذه الأمة الأفذاذ وأئمتها، الخليفة الخامس رحمه الله، كانت الأمراء من بني أمية يكيدون لابن عمهم عمر ويعدون العدة لإسقاطه كراهة، فاستحثه ابنه ليسارع في الإصلاح بينه وبين الأمراء قائلا: “مالك يا أبي لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق”، فتى حديثا لا يخاف الكيد المحيط ويستعجل، فيجيب الرجل الكامل قائلا: “لا تعجل يا بني؟ فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق، فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة” 1. أسلوب رقيق يدل على حكمة عظيمة وفطنة وتجربة، فنبه برفق ابنه ودله على ما غاب عنه.
والإسلام أوجب على المؤمن أداء النصيحة في المواقف التي تتطلب ذلك، قال تعالى: وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِۖ” (العصر، الآية 3).
ولا ننسى الدور الاستراتيجي للأمهات المسلمات في تربية أبنائهن، فيضعن قواعد السلوك الاجتماعي الذي يعلو بالنفوس إلى أعلى الدرجات، ومن مبادئ الأخلاق ما يرقى بالإنسان إلى أعلى المقامات. تحرصن على تربية أولادهن تربية مستقبلية، علومية، قرآنية، حكيمة وواقية.
عن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله، يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه” 2.
بهذه الصورة الرائعة يصور المصطفى صلى الله عليه وسلم وصايا يرشدنا إليها لنجعلها نبراسا للأبناء في الحياة، تضيء لهم الطريق، وتأخذ بهم إلى معراج العز والفخر، فأول ما ينبغي على الوالدين فعله أن يعودا أبناءهما على طاعة الله وحبه وحب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي حقه أعظم من حق الوالدين، وحبه يقدم على حبهما. والحرص كل الحرص على تعليم الأطفال تلاوة القرآن كما جاء في الحديث، وأن يزرعا حب القرآن وتعظيمه وترتيله وحفظه في الأولاد، فبه يتنور الإنسان ويعلو إلى مراتب أهل الشرف والفضل، وكفى بهذا شرفا وتعظيما وفخرا.
وخير الختام قول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “تصاحب الأم نمو المولود وتراقب حركاته وهو يحبو وجسمه ينمو، وعقله يتكون، ولسانه ينطلق، لقنيه لا إله إلا الله لتكون أول ما يلفظ به عسى بركتها تجري عليه مدى العمر، تراقب الأم سلوك الطفل وعوارض مرضه لتتدخل الطبيبة المختصة إن كانت الأم طبيبة البيت قد تجاوزتها الأحداث.
تعود الصبي نظافة الأسنان من لدن قيامها بذلك عنه يوم بروزها إلى أن يستقل بتسويك نفسه مستقلا، وتلك سنة نبوية مؤكدة أشد التأكيد، من تخلى عنها صغيرا أو كبيرا تلفت مع أسنانه صحته، وتأذى من بخره الملائكة والناس. النظافة المبكرة تنتظر الأم أن يحملها عنها المولود حملا متدرجا، فإذا بلغ السابعة فالطهارة والوضوء والصلاة ترغيبا وتحبيبا. وقاية الجسم مع وقاية الروح تجتمع” 3.
وروحنا أيضا ترتوي من هذا الكلام الذي يشبع النفوس ويشجع على تربية الأبناء والحرص عليهم.
وهو القائل أيضا: “يشجع الصبيان والغلمان والفتيات على كل حميد من الخلق وجميل من الأفعال مما يقربهم إلى الله ويبعدهم من غضب الله، الصلاة والقرآن والرحمة بالضعيف، والنظافة والصدق والحياء أبو الفضائل، الحياء من أهل شعب الإيمان، الحياء وقاية ذات حدين، حياء من الله وانكماش عن فعل يكرهه الله وحياء توقير واحترام وأدب ولياقة، فتلك الفضائل… يربى الصبيان والناشئون على حب الله، والحب في الله والبغض في الله، والشجاعة في الحق، ونصرة المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعزة على الكافرين تزينها الذلة على المومنين، وذكر الله المستديم، ودعاؤه سبحانه، والتوكل عليه إقداما وعملا جادا، وامتلاك النفس عند الغضب وحفظ اللسان إلى سائر شعب الإيمان ومنورات الإحسان” 4.
والصلاة والسلام على خير المرسلين.