وعد الآخرة أو نهاية فوكوياما

Cover Image for وعد الآخرة أو نهاية فوكوياما
نشر بتاريخ

وعد الآخرة أو نهاية فوكوياما 1

مشاهد المأساة:

تشكل صور الحرب والقتل التي يعاني ويلاتها الشعب الفلسطيني عامة وسكان غزة المحاصرون بين فكي كماشة الاحتلال الصهيوني الهمجي وتخاذل – بل وتواطئ – الجيران العرب المطبعين، مصدراً عميقاً للإحباط واليأس لدى جمهور الشعوب العربية والإسلامية التي تتابع يوميا وعلى مدار الساعة سيلا من المشاهد الأليمة توفرها بشكل فوري ومتكرر وسائل الإعلام بكل أنواعه.

يجد المشاهد والمتتبع نفسه أمام تفاصيل لا تنتهي من مآسي هذه الحرب القذرة، شلالات من الدماء وآلاف الشهداء، مدن مدمرة وجحافل من اليتامى والمعذبين تفتك بأجسادهم الهزيلة المجاعة والأمراض المعدية.

أهوال وآلام يدرك المجاهدون ضرورتها في سبيل الحرية والعزة والكرامة، لكن عموم الشعوب المسلمة المستضعفة قد يولد لديها استمرار وتكرار هذه المشاهد حالة مدمرة من العجز والإحباط.

حالة يطلق عليها الأخصائيون “إرهاقَ التعاطف” 2، وهو نتيجة طبيعية للتعرض المستمر لمشاهد البؤس والآلام تؤدي إجمالا إلى إضعاف الوعي الجماعي تجاه المعاناة، وقد تتسبب في تآكل الروابط الإنسانية وتقلل من الانخراط الإيجابي والفعال في المشاريع المجتمعية. تَبَلُّدٌ عاطفي عبّر عنه القرآن أحسن تعبير في وصف حالة بني إسرائيل في قوله عز وجل: قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ 3.

 لذا فنحن في حاجة ماسة إلى تربية دينية شاملة، من أجل توعية الخاصة والعامة بضرورات وواجبات معركة التحرير والعزة والكرامة، الطريق طويلة وشاقة تحتاج إلى نفس طويل، في هذا الصدد يقول الإمام المجدد: “إن الأسباب الآفاقية الكونية للكوارث النازلة بنا معشر الأمة هي نفس الأسباب التي تركّزُ بأسها على العاملين للإسلام المجاهدين لنصر قضيته. وإن العوامل الأنفسية الواغلة في الأمة هي نفس الأسباب الناهشة في نفوس العاملين للإسلام الآكلة لإيمانهم، القارضة لمروآتهم، الموهنة لرجولتهم. ومتى لم يعالج المترشحون للانضواء تحت راية لا إله إلا الله الطامعون في الانخراط بصف جند الله ما بهم من رزايا نفسية قلبية ورثوها من البيئة ولم يتلقوا تربية تطهرهم منها، فإنهم لن يكونوا إلا طبعة منقحة من المجتمع الغثائي” 4.

تربية مطهرة:

لا يمكن التصدي لمخاطر هذه الأحداث المؤلمة والمشاهد السوداوية، التي قد تؤدي بالإنسان إلى نوع من القلق الوجودي، حتى إنه ليتساءل مع ضعف الإيمان والجهل بسنن الله عن مغزى هذه الحياة، فيتلبس به الشيطان في سلسلة من الأسئلة المقلقة والمشككة والعياذ بالله، إلا بتربية إيمانية تطهر الأفئدة وتزيل الحجب عن العقول. وأول خطوة في هذه التربية أن يعرف المسلم أن هذه الدار دار بلاء وامتحان، خلقها الله واستعمرنا فيها ليبلونا أنشكر أم نكفر، ولنقيم دولة العدل ونحارب كل مظاهر الظلم والجور. وأنها قنطرة إلى الحياة الأبدية في الدار الآخرة، حيث الحساب والجزاء، نعيم أبدي للمؤمنين، وخلود في الجحيم للظالمين الكافرين.

من دعائم هذه التربية أن يوقن العباد أن استمرار الحياة في دار الدنيا قائم على سنتي التدافع والتداول بين دولتي الحق والباطل: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا 5.

والتداول والغلبة هما النتيجة الحتمية لهذا التدافع، قضى الخالق سبحانه أن تكون المآلات دائما لمن أحكم الإعداد واحترم الأسباب. لا يختلف الأمر في هذا بين الكافر والمؤمن، إلا ما كان من مزيد تأييد الحق سبحانه عباده الذين جمعوا مع الأخذ بالأسباب، معاني الاستقامة والتقوى والصلاح، وهو دلالة منطوق تمام الآية السابقة في قوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

ويتخذ منكم شهداء:

ومن دعائم هذه التربية ومقتضيات الإيمان بحتمية القدر أن يستيقن أن لا حركة ولا سكون في هذا الكون إلا بعلم الله وإرادته: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا  حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 6، ويشمل ذلك أيضا كل ما يحصل من مشاهد  الدمار والموت، صُنعَ الحكيم الخبير الذي أتقن كل شيء خَلَقَه، فيه من الحكمة واللطف ما لا يحيط بعلمه إلا هو سبحانه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» 7، والخير الذي ليس بعده خير من سنة التداول والغلبة هذه، أن ينال المؤمن الشهادة فضلا من الله ونعمة، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 8، قال ابن القيم: “فلولا إدالة العدو لم تحصل درجة الشهادة التي هي من أحب الأشياء إليه وأنفعها للعبد” 9.

كما أن عبارة -ويتخذ- في الآية فيها معنى بليغا وعميقا يدل على الاصطفاء والاجتباء: “إن الشهداء لمَختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين، ويتخذهم لنفسه سبحانه، فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد. إنما هو اختيار وانتقاء، وتكريم واختصاص. إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة، ليستخلصهم لنفسه سبحانه ويخصهم بقربه” 10.

إذا استقرت هذه الحقيقة في جوف العبد، وعمل على مقتضياتها الشرعية، صار أسمى ما يصبو إليه هو رضا ربه، يجتهد ويجاهد في سبيله جهادا متواصلا، مستوعبا لكل مجالات الحياة: “بذا يصبح «تداول الأيام» في حقك قدراً مقدوراً. أن تعالج الجزيئات بكل تواضع خطوة خطوة، مدافعا المعتدي، مواجها التكالب العدواني باسْتِمَاتَةِ منْ يُوقِنُ أنه على حق” 11.

يقين يرفعك إلى مصاف أحباب الله، من الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين،  أولئك الذين باعوا مهجهم لله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 12.

أصل الصراع:

يقول الدهريون ومن سار على نهجهم وطريقتهم من أصحاب الفلسفات والايديولوجيات المادية: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ۚ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ 13، ومعناه أن الصراع لا يعدو هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى، ولا بعث ولا حساب ولا جزاء.

إن كان هؤلاء الماديون يؤمنون بحتمية التاريخ وصراع الطبقات وصراع المصالح، فالمؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر يوقن بحتمية القدر، حتمية تمشي وفق سنن الله الكونية التي لا تتبدل ولا تتغير: “سنة الله ترتيب النتائج على المقدمات، وترتيب المرحلة على المرحلة، والمعلولات على العلة، وتغيير ما بالقوم على تغيير ما بأنفسهم، والفوز في المعركة على إعداد القوة” 14.

يوقن المؤمن بثبات سنن الله الكونية مع الالتزام الكامل بسننه الشرعية، ويجتهد في العمل ولا يألو، قائما بذاته مع الأسباب، والقلب متعلق بالله ومتوكل عليه، لا يتردى به إيمانه بحتمية القدر في دركات الانعزال والخرافية: “فلا تناقض لديه بين ما أُمِرَ به وما قُدِّر عليه. يسعى جهده، ترتبت النتائج المنطقية على جهده أو تخلَّفَتْ. فهو بهذا طاقة فاعلة. وهكذا كان المرسلون، والصديقون والشهداء والصالحون” 15.

إن جوهر الصراع بين الحق والباطل، وبين الجاهلية والإسلام، يتجاوز حدود الخلافات الظاهرية ليصبح صراعًا عميقًا حول الوجود والهوية والحضارة. إنه صدام بين رؤيتين للعالم؛ رؤية تستمد قيمها الخالدة من نموذج حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وتسعى لتجديد ذلك النموذج وإحيائه في الأمة، ورؤية جاهلية دوابية منقطعة في الأرض.

وعد الآخرة وحتمية المواجهة:

المواجهة بين الإسلام والجاهلية بما يحملانه من قيم متناقضة، مواجهة حتمية وثابتة ثبات سنة الله في الصراع الدائم والمستمر بين الحق والباطل. مواجهة تكشف مدى صدق المؤمنين واستعدادهم لتحمل أعباء رسالة الخير والعدل والرحمة للعالمين.

وتعتبر القضية الفلسطينية عنوان ورمز هذه المواجهة، والساحة التي ستحسم فيها المعركة، معركة حتمية القدر الإلهي، المُؤْذِنِ بخراب بيت الجاهلية المتغطرسة: “.. ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة -إسرائيل- التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقا لوعد الله القاطع، وفاقا لسنته التي لا تتخلف.. وإن غدا لناظره قريب!” 16.

هذا الغد المرتقب حسب تعبير الشهيد قطب، عرف أوج فورته مع اندلاع معركة طوفان الأقصى المبارك، أزيد من سنة والمقاومة الباسلة في فلسطين، وعلى رأسها حركة حماس، تلقن العدو الصهيوني أعظم درس في المواجهة والصمود. لم يثنها ويثن شعب غزة ما يقدمونه من الأثمان الباهظة والتضحيات الجسام. ولم يفت من عضدهم ما يرونه من تخاذل حكومات “الأشقاء” بل وخيانة بعضهم وسقوطهم في أحضان العدو الصهيوني، يسانده ويقدم له الدعم في السر والعلن.

أجمع فقهاء المسلمين باختلاف مذاهبهم، أن الجهاد لتحرير أرض المسلمين فرض من آكد الفرائض، فما بالك إذا كانت هذه الأرض هي أولى القبلتين وثالث المسجدين المقدسين، فالجهاد في سبيل تحريرها أوجب وأعظم وأشرف وأعلى مكانا في دين الله.

المجاهدون الصادقون حاديهم هو الإخبار الإلهي: فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً، وعد جاء ذكره في هذه السورة مرتين هو: “حدَث ضخم ينتظره المؤمنون. ليس موقعة جزئية ولا معركة جانبية كما يحسب العرب المكبوتون المغلوبون في فلسطين. قضية الإسلام واحدة، واجهتها الصدام المحتوم مع الجاهلية” 17

وأعدوا لهم ما استطعتم:

كثير من المتخاذلين والمرجفين، ممن أصابهم الوهن أو من أولئك الذين انخرطوا في مشاريع التطبيع مع العدو، هالهم ما أقدمت عليه المقاومة المباركة يوم السابع من أكتوبر، فصاروا يبحثون يمنة ويسرة يلتمسون المبررات ليبرزوا خطأ المقاومة واختيارها. ويدعي هؤلاء أن ميزان القوى غير متكافئ، وأن هذه المواجهة مغامرة غير محسوبة العواقب.

بيد أن أمر الحق سبحانه في محكم تنزيله كان واضحا في إرساء قواعد معادلة معركة الحق مع الباطل، بل جعل تلك القواعد من صميم سننه الكونية الثابتة. قال عز من قائل: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ 18، والإعداد التهيئة والإحضار، ودخول أداة الحصر – ­ما – على الاستطاعة يدل على أن المطلوب إنما هو كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة، وليس ما يكافئ أو ما يوازي ما يملكه العدو. فهي حدود الطاقة إلى أقصاها. بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها.

يؤكد الشيخ محمد متولي الشعراوي في خواطره أن هذا التكليف بالإعداد حسب الوسع والاستطاعة، لأن الإنسان محدود بطاقة، ووراء قدرة المؤمنين قدرة الله سبحانه. ولذلك أنت تعد قدر ما تستطيع ثم تطلب من الله أن يعينك. وإذا ما صنعت قدر استطاعتك، إياك أن تقول: إن هذه الاستطاعة لن توصلني إلى مواجهة ما يملكه خصمي من معدات يمكن أن يهاجمني بها، فخصمك ليس له مدد من السماء إنما أنت لك المدد السماوي، وما دام لك هذا المدد فقوتك بمدد الله تجعلك الأقوى مهما كان عدوك.

حقيقة هذا المدد الغيبي الذي يؤيد به الحق سبحانه عباده المؤمنين المجاهدين، أكدت عليه آيات كثيرة كقوله: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ 19.

ويومئذ يفرح المؤمنون، أو سنة الاستخلاف:

استخلاف المؤمنين في الأرض قدر محتوم لأنه من مقتضيات إرادة الله عز وجل: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 20.

النصر والتمكين للأمة المستضعفة وعد من الله ناجز متى توفرت شروطه، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.

تباشيره لاحت مع صمود المقاومة في معركة طوفان الأقصى معلنة انهيار نظرية “نهاية التاريخ” 21 التي يتبناها العديد من الساسة الغربيين، والتي ترى أن الديمقراطية الليبرالية قد أثبتت تفوقها على جميع الأنظمة الأخرى، وأنها هي وحدها الشكل النهائي للتنظيم السياسي في العالم.

طوفان الأقصى والصمود الأسطوري لأهالي غزة عرى شجرة توت حضارة الغرب المزهوة بشعارات الديموقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي، وفضح زيفها وكذبها جثث عشرات الآلاف من النساء والأطفال الذين اختلطت أشلاؤهم بركام البيوت المدمرة تحت وابل الصواريخ والقنابل الحارقة التي لم ينقطع هدير قصفها منذ أزيد من سنة: “قضية فلسطين بداية المواجهة الحاسمة بين الحق والباطل، بين الجاهلية والإسلام. مع الجاهلية تنَبؤٌ يهودي بمملكة صهيون الألفية. ومع الإسلام وعد الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالنصر المبين، وبالخلافة على منهاج النبوة، وبظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون” 22.

الأمة على موعد مع النصر، تباشير صبحه القريب تشرق مع هذا الصمود الذي سينبت وعيا جديدا ترويه شلالات دماء الشهداء الأبرار. وعيا جديدا لدى جماهير الأمة المستضعفة بدينها، ترجع إلى ربها وترسم خطة العزة والنصر الموعود: “ستظل إسرائيل ابتلاء مؤقتا، ريثما يدرك المليار ونصف المليار مسلم المتشرذمون هويتهم الحقيقية، لأن الابتلاء مفهوم مركزي في الإسلام يميز الله به الذين آمنوا من الكافرين. وعد الله جلي في كتاب الله، لكن تحقيقه رهين ببضعة شروط؛ بالإيمان، بالمؤهلات السياسية والاجتماعية، بالمقاومة والاستشهاد، وبالإعداد الطويل المتأنِي إلى أن يحل يوم «التداول»، فالنصر رهين بالاستحقاق!” 23.


[1] يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما (إنجليزية: Yoshihiro Francis Fukuyama) (ولد في 27 أكتوبر 1952) هو عالم وفيلسوف واقتصادي سياسي، مؤلف، وأستاذ جامعي أميركي. اشتهر بكتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير الصادر عام 1992.
[2] “إرهاق التعاطف” (Compassion Fatigue) هو حالة نفسية تحدث عندما يشعر الشخص بالإرهاق العاطفي والتعب النفسي نتيجة التعاطف المتكرر مع الآخرين أو التعرض المستمر لأخبار ومعاناة الآخرين.
[3] سورة المائدة، الآية 24.
[4] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 248.
[5] سورة الحج، الآية 40.
[6] سورة الأنعام، الآية 59.
[7] صحيح مسلم، عن صهيب بن سنان الرومي، رقم 2999.
[8] سورة آل عمران، الآية 140.
[9] ابن القيم الجوزية، إغاثة اللهفان، ج 2 طبعة دار الفكر، ص 191.
[10] سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة  العاشرة، دار الشروق 1982، ج 4، ص 481.
[11] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، الترجمة العربية، ص 101.
[12] سورة التوبة، الآية 111.
[13] سورة الجاثية، الآية 24.
[14] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 21.
[15] عبد السلام ياسين، مقدمات لمستقبل الإسلام، ص 27.
[16] سيد قطب، في ظلال القرآن، طبعة دار الشروق 1982، ص 2214.
[17] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 155.
[18] سورة الأنفال، الآية 60.
[19] سورة الأنفال، الآية 12.
[20] سورة القصص، الآية 5.
[21] فرنسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، صذر سنة 1992.
[22] عبد السلام ياسين، سنة الله، ص 119.
[23] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، الترجمة العربية، ص 98.