اختطفنا واعتقلنا بتاريخ 1 نونبر 1991 بعد محاكمة صورية انتفت فيها كل معايير المحاكمة العادلة، قضينا ثمانية عشر عاما بمختلف سجون الوطن امتدت على عهدين، عهد غابر شهد عليه بالصلف والجبروت، وآخر جديد لا يختلف عن سابقه إلا في شكله وأشخاصه الممثلين الجدد على مسرح الأحداث، وبتاريخ 1 نونبر 2009 أفرج عنا نحن معتقلي العدل والإحسان لنعانق حريتنا المغتصبة بعد أن تجرعنا ظلم المخزن وإهاناته للكرامة الآدمية وقسوته على كل حر أبي مطالب بالحرية والعدل لهذا الوطن الجريح الذي يتعرض لمؤامرات سلخه عن هويته ومصادرة خيراته وإلغاء حرية أبنائه… نعم إنهم طلبة العدل والإحسان الّذين سبق اعتقالهم بمدينة وجدة على خلفيات نشاطهم داخل نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وانتمائهم لفصيل طلبة العدل والإحسان (وليس على أساس ما لفق لنا من تهم باطلة)، الحديث الظهور آنذاك، والذي شكل بروزه في الساحة الجامعية تحولا حاسما وإضافة نوعية لأنشطة الاتحاد الذي عانى عقودا من الجمود والأزمات.
ويوم 1 نونبر 2010 حلت الذكرى الأولى للإفراج عن معتقلي العدل والإحسان الأحد عشر (الأخ بلقاسم التنوري أفرج عنه 9 أشهر بعد 1 نونبر 2009).
هذه المناسبة أسفرت عن أفكار وتأملات أثبتها في ما يلي:
1- مرت سنوات الاعتقال الطويلة فثبت أجرها، إن شاء الله، وبقي وزرها على كل من كان وراءها من زبانية المخزن ووكلائه وجلاديه الذين ما تزال أيديهم طولى فيما يستجد من انتهاكات لحقوق الإنسان نعتبرها جسيمة مهما دقَّ هذا الخرق أو جلَّ، أَُفرج عنا طلبة العدل والإحسان واعتَقلوا أطرها بمدينة فاس، وإنهم ليشكلون اليوم مع آخرين شهود حق على كذب شعارات المخزن الذي يعمل على تسويقها بحديثه عن الإنصاف والمصالحة ودولة الحق والقانون وطي صفحة الماضي، وها هي التقارير الدولية تصدر تترى لتبرز زيف هذه الشعارات وبعدها عن الواقع، وليس آخرها ما أشارت إليه منظمة هيومان رايتس ووتش التي فضحت حاضرا من الانتهاكات والتجاوزات.
2- أراد المخزن بهذا الاعتقال، وهو ما يريده بالاعتقال الجديد لمعتقلي العدل والإحسان السبعة بسجن فاس، كسر إرادة الجماعة التغييرية وإعاقة دعوتها ومشروعها الفريد في الدعوة والدولة، وقد ولى بفضل الله من هذا المخطط بخفي حنين لا يلوي منه على شيء، وبقيت العدل والإحسان شامخة بمبادئها ورجالها لم تساوم ولم تعط الدنية من دينها محتسبة صابرة على استفزازات من يحاولون جرها إلى عنف ليس من فكرها أو نهجها، بعد أن ارتضت الرفق والدعوة بالتي هي أحسن وسيلتها في العمل والدعوة.
3- السجن محن وإحن خلف قضبان القهر والنسيان لمن استسلم لنزغات القمع وهمزاته، واستسلم لمحاولة هدم كيان الإنسان الداخلي الذي هو روحه ومعناه، وهو الفخ المخزني الذي نصبه بهذا الاعتقال، إلا أنه بفضل الله نُقض على غير صيد لما ثبت الله تلك الثلة من الإخوة المعتقلين التي لم تستلم لجلاديها، بل صمدت وقاومت وحولت سجنها إلى مدرسة يوسفية شعارها رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فصولها زنازن وبرنامجها ذكر وفكر: ذكر لله عز وجل يرحل بصاحبه من عالم الملك إلى عالم الملكوت، تذكر الله وأنت في جهاد السجن والسجان، عندما يخاف الناس ويزدحمون على مخارج الأمان ومهارب الجبن، هو قوت القلوب التي متى فارقها صار السجن جحيما، هو السلاح الذي قاتلنا به قطّاع الطرق، والماء الذي كنا نطفئ به نار الحريق، ودواء العلل والأسقام، به هون الله علينا المصيبة، أظلنا البلاء فكان ملجأنا إليه، ونزلت بنا النوازل فكان مفزعنا إليه. نذكر الله فيتنور القلب وتدمع العين وتخشع الجوارح فنستسلم للقدر مرددين “ربنا ما كتبت هذا باطلا سبحانك”، في فسحات السجن كان لنا مع القرآن الكريم جولات ووقفات تلاوة وتدبرا وحفظا وفهما، سياحة في عباراته وعبره، في أحكامه وقصصه، في إعجازه وإنجازه، نقرأ فيه عن النبوة والقرابة والصحبة فنستظل بظلال قوله تعالى وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. نطوف بدعوات الأنبياء والصالحين وبمواقفهم القوية فنستهين بما أصابنا في جنب الله من ضراء مقابل ما تعرضوا له من أقوامهم من معاناة صدهم عن تبليغ الرسالة فنتوجه إلى الله بالدعاء ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. بذكر الله تسقى شجرة الإيمان القلبية، وبقرآنه تتقوى جذورها وتزهو ثمراتها، والعطية الكريمة أن يمن علينا الكريم الوهاب بحفظ كتابه، إنها فرصة العمر.
4- النظر في كتاب الله المسطور القرآن الكريم مطلب يلزمه مطلب آخر بالنظر في كتاب الله المنظور، وهو هذا الكون الشاسع الذي كان مجالا للفكر والتفكر الذي يتناول الأشياء والمعاني من جهة مرجعيتها إلى الخالق تعالى، ومن زاوية معنى وجود الإنسان، ومصيره بعد الموت ومخلوقيته ومسؤوليته في الآخرة، ومن هذا المنطلق يتم التفكر في خلق السماوات والأرض، لا في مجرد الكون الكائن هناك، التفكر في الموجودات من حيث هي مخلوقة من الله عز وجل صادرة عن قدرته وإرادته وعلمه وكلمته وأمره وقضائه وقدره، تفكر في الخلق لا في مادة صماء، في قدرة الخالق جل وعلا الذي أنشأ وأبدع. وإن أقرب مجال للتفكر يطرقه المعتقل هو تدبره في نفسه التي بين جنبيه بعدما تخلص من كثير من عوائق هذا التدبر وتجاوز كلما يصرف عنه، يرى نفسه بالعين المجردة، فيهتدي إلى معرفة معروفها ومنكرها، محمودها ومذمومها، فينعطف إلى العمل على جلب نفعها ودفع ضرها. وقد وجدنا في الرباطات والاعتكافات التي كنا ننظمها مناسبات لمجاهدة النفس ومحاسبتها ومراجعتها وتزكيتها بالعبادات والقربات، فرضا ونفلا، آناء الليل وأطراف النهار،وإنها لمحطات تتزود فيها الروح من مأدبة الرحمان فتشتاق إلى ما وعد الله به عباده المؤمنين من جنة ورضوان وروح وريحان.
5- نجاعة التربية الإيمانية التي تنهجها وتدعو إليها جماعة العدل والإحسان وتغرسها في نفوس أعضائها ومنتسبيها، تربية إيمانية قوامها صحبة وجماعة، ذكر وصدق:
صحبة تضع اتباعك على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة التي أمر الله كل مؤمن أن يجعلها نموذجه المحتذى الذي يسلك به طرق الفلاح والنجاح، لأن صحبة القدوة المصحوب بربانيته ونورانيته هو في حد ذاته إرشاد إلى التعلق بالأسوة المحبوب الشاهد المبشر النذير السراج المنير، عليه الصلاة والسلام. ولا صحبة إلا وسط جماعة مجاهدة بها ومعها يجتاز المؤمن عقبات الأنفس والآفاق حتى تستقيم نفسه على محجة واضحة وضوح مبادئها ووسائلها وأهدافها.
وثاني مقومات التربية الإيمانية ذكر الله تعالى على كل حال، حتى يكون الله المنطلق والمنتهى وأن إلى ربك المنتهى، وفي غيابات سجن كئيب تذكر الله فتجلى الظلمات وتنشرح الصدور وينمو الأمل.
وأما ثالث أثافي التربية الإيمانية والمنزلة العظمى هو الصدق صبرا على وعثاء الاعتقال، وإخلاصا لله تفرده بالعبادة والاستعانة، هو روح الخلاص الفردي من حيث لا يغني عن أحد تألق مصير جماعته، ولا تمكين دين الله في الأرض، ولا فلاح من أفلح، ولا اختلاف من اختلف إن لم تتحقق له هو مع الله جل شأنه رابطة العبودية والمحبة والقربة ليكون من الذين إن تقربوا إليه شبرا تقرب إليهم باعا.
6- حرص الإخوة المعتقلين على وحدة الصف ونبذ الفرقة والتنازع مضنتي الفشل والانتكاس والعياذ بالله، فكان التآزر والتعاون على كل ما يجمع ويوحد الجهود ويسمو بالحركة والصمود إلى مقام الشعور بالجسد الواحد والمصير الواحد، وما كان لذلك أن يتحقق بدون انتظامهم في علاقاتهم الاجتماعية بنواظم المحبة والنصيحة والشورى والطاعة، محبة في الله خدمة وتطاوعا ورفقا وإيثارا، ونصيحة وشورى تناصحا وتشاورا وتعاونا ومشاركة وأدبا وحسن قول وعمل، وطاعة لما جعلوا لقرارات الشورى وعزماتها الخِيَرةَ إذعانا واحتراما وتفعيلا وتنزيلا.
7- مكان القدوة والصحبة الذي مثله الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، حفظه الله، نموذج يحتذى في التقوى والصبر والصدع بكلمة الحق التي لا تداهن أو تساوم أو ترضى بأنصاف الحلول، فكان وما يزال حفظه الله يرعى هؤلاء الإخوة ويتابع أخبارهم بنصحه وعطفه وإرشاداته التي تتجاوز بالجميع خطوط التماس، ليخمد اتقاد الوسواس، وتطيب بذكر الله الأنفاس.
تأتي الذكرى ويتجدد معها الأمل والرجاء بغد أفضل لهذا البلد الذي لم يلق من مسؤوليه سوى العقوق والجحود، مستقبل يشترك فيه الكل من أجل البناء وتجاوز كل الممارسات التي تكرس واقع الاستبداد والفساد المستشري ليفتح باب المصالحة الحقيقية مع الشعب وإنصافه بإرجاع ما صودر منه من حقوق وتمكينه من عيش كريم يليق بنضاله وتضحياته.