تحتل الوصية موضع اهتمام ورعاية في الفقه الإسلامي وفي ديننا الحنيف، لذا نجد العلماء فصلوا فيها القول وبينوا ملامحها وأصولها، وفي السنة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده” 1 .
وقد أجمع العلماء على فضل الوصية وثبوت الأجر فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المحروم من حرم الوصية، من مات على وصية مات في سبيل وسنة وتقى وشهادة، ومات مغفورا له” 2 . والغالب في كتب الفقه أن تعقد الوصية في متعلقات الميراث والتركة من الأموال والمتاع والعقار، لكن الوصية بمفهومها العام تسري على كل ما يتركه ويوصي به الميت سواء كان حقا ماديا أو معنويا، والأمر يعظم عندما تكون وصية العلماء، فقد ثبت عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه قال: “العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر” 3 . وعلى هذه السنة الحميدة تكون وصية الأعلام من الائمة والعلماء على ميراث النبوة من العلم والتربية والتقوى ولزوم المحجة البيضاء والتمسك بالجماعة ومعاني الرفق والرحمة والتؤدة.
والمطلع على سيرة العلماء الربانين ليجد حرصهم الشديد على رد الأمة إلى أصولها وقواعدها البانية بنظرة تجديدية اجتهادية.
وتعد وصية الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله واحدة من تلك الوصايا التي خلفها سلفنا الصالح ممن يحملون هم الدعوة إلى الله وإعادة بناء أوصال الأمة، وفق المنهاج النبوي الشريف الجامع للهم الفردي الأخروي وتحقيق الكرامة والعدل الإنساني.
فالوصية كنز يزخر بمعاني جليلة وعظيمة ومرامي رقيقة نبيلة، وما أحوجنا في عصرنا الحاضر حيث ادلهمت الخطوب والفتن لمثل هذه الوقفات الداعية إلى التمسك بالعروة الوثقى والاعتصام بحبله المتين، وفتح القلوب والمسامع لمثل هذه الوصايا النافعة والكلمات الجامعة والحكم المانعة التي ترسم لنا معالم الطريق، وتأخذ بأيدنا إلى سبيل الحق، لأنها مستقاة من مشكاة النبوة، ومن بدائع حكم الربانين الذين أشرقت نفوسهم بالحكمة وفاضت قلوبهم محبة ورحمة.
فالإمام عبد السلام ياسين يجسد بذلك تعلقه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتَمَثُّلَه معانيها، وذلك بحضه على مكارم الأخلاق والتسابق في الخيرات والعمل الصالح بأسلوب تربوي بديع وفهم دقيق وتجديد واجتهاد عميق في تصويب للمعاني والرقائق.
فالوصية جامعة مانعة تلخص مشروع الرجل وهمه القائم على إقامة العدل ونبذ الجور والاستبداد، مع التعلق بمعالي الأمور وترقب الآخرة والاستعداد للقاء الله، وحبس النفس ومحاسبتها والترقي في مدارج الإيمان والإحسان، مع التأكيد على الوصال وتجديد أواصر المحبة والتزاور عبر الأزمان، كما تحمل الوصية معاني الافتقار والتواضع والذلة بين يدي العزيز الوهاب، مع التذكير بأصول الدين والإيمان، وحسن المعاملة والإحسان إلى الوالدين وحسن تربية الأبناء، والبعد عن الفواحش، والحفاظ على وحدة الكلمة وعدم التفرقة، واعتماد مبدإ الشورى وحفظ حقوق الناس، وأموالهم، وأعراضهم، والوفاء العهد وإقامة الصلاة وحسن التبعل والتلطف بالأهل والأزواج، والتذكير بالخصال العشر خاصة لزوم الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة، والتمسك بدعاء الرابطة، مع الهمة العالية في طلب القرب والزلفى من الله سبحانه وتعالى.
وصية تذكر بوصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو على صعيد عرفة في حجة الوداع، حديث من القلب إلى القلب تناقلته الأجيال والأزمان والأئمة والأعلام تنهل من ميراث النبوة، وأعظم به من ميراث حيث المعين الصافى والوحي القرآنى والذكر النبوى الجامع. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه دخل السوق وقال: أراكم ههنا وميراث رسول الله يقسم في المسجد؟ فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق فلم يروا ميراثا، فقالوا يا أبا هريرة ما رأينا ميراثا يقسم في المسجد قال: فما رأيتم؟ قالوا: رأينا قوما يذكرون الله عز وجل ويقرؤون القرآن قال: فذلك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم) 4 .
فرحم الله الامام عبد السلام ياسين الذي جدد الإرث النبوي وبثه في صفوف الأمة إرادة وفهما وسلوكا ودعا إليه وصابر من أجله، وأجزل له العطاء ورفع قدره ومتعه بالنظر إلى وجهه الكريم. آمين.