“وقف إطلاق النار” شر لابد منه!

Cover Image for “وقف إطلاق النار” شر لابد منه!
نشر بتاريخ

رسميا تم الإعلان من طرف رئيس حكومة العدو الصهيوني على وقف إطلاق النار مع لبنان، وأكده خطاب الرئيس الأمريكي بايدن مباشرة بعد ذلك، ومع الترحيب الواسع من كل دعاة السلام وأنصار الإنسانية بهذا القرار، ودون الغوص في مناقشة الأسباب التي دفعت الطرفين إلى القبول والاتفاق، أو توقيت القرار وخلفيات الوسطاء الإقليمية والدولية، أو مناقشة حسابات الربح والخسارة وإكراهات وتحديات الأطراف سياسيا وعسكريا وإنسانيا، يظل التخوف الملح هو كم سيصمد هذا الاتفاق في ظل استمرار الحرب على غزة؟ وإلى أي حد تعتبر الأطراف هذا الاتفاق خيارا استراتيجيا وليس مناورة تكتيكية تتداخل فيها حسابات السياسة وضرورات العسكرية؟ وهل سيتم فصل المسارات، وسقوط شعار وحدة الساحات؟ وهل يكون هذا الاتفاق بداية لتسوية شاملة في المنطقة؟ وماهي ضمانات استمرار وقف إطلاق النار في ظل الانحياز الأمريكي والغربي غير المسبوق وغير المبرر؟

ورغم أن القرار قد لقي مباشرة بعد الإعلان عنه ترحيبا دوليا واسعا لدواع إنسانية صرفة، لأنه ينهي معاناة الملايين على الجبهتين، ولأنه يشكل بداية لحل ما يلوح في الأفق، فقد تعرض لانتقادات من المتابعين من أنصار الطرفين من حيث التقييم الإجمالي ومن حيث التفاصيل التقنية، ومن حيث توفر الضمانات الكافية لصموده، ومن حيث توقيت الاتفاق، وكل هذه الانتقادات تخفي في طياتها مشاعر وتخوفات، وتستبطن قراءات وتقديرات.

وفي تقديري لا ينبغي أن يتجاهل المحللون حقيقة أن لبنان ليست هي غزة/فلسطين، وأن طبيعة المقاومة في لبنان ووضعها وأهدافها وارتباطاتها وأهدافها مختلفة كثيرا وإن كانت هناك تقاطعات مشتركة، والوعي بهذه الحقيقة يمكننا من قراءة أقرب إلى الموضوعية:

1- لابد من التذكير أنه في مثل هذا الوقت بالضبط أي بعد 45 يوما من العدوان على غزة تمت الهدنة الأولى في 24 نونبر2023، وكانت تحت مسمى “الهدنة الإنسانية”، وبنودها قريبة من بنود وقف إطلاق النار، باستثناء بندي تبادل الأسرى والسماح بدخول المواد الإغاثة، وكانت مناورة صهيونية لالتقاط الأنفاس وترتيب البيت الداخلي، وامتصاص الغضب الدولي الرسمي والشعبي.

2- لابد من الإشارة إلى أن هذا الاتفاق هو قرار عسكري من الطرفين بلا ضمانات سياسية دولية ولا محلية، وكل بنود الاتفاق السياسية لا يملك أي أحد فرضها لا على المقاومة ولا على «إسرائيل»، وبالتالي هو اتفاق هش جدا وسيشرع في خرقه منذ اللحظات الأولى، فوقف إطلاق النار “لا يلغي حق «إسرائيل» أو لبنان في ممارسة حقهما الأصيل في الدفاع عن النفس” ونص القرار بهذه الصيغة هو تحصيل حاصل، فالطرفان لا يعبأن بأحد.

3- الاتفاق يعلن ضمنيا أن “ناتن ياهو” صار ورقة محروقة وستتم التضحية به سياسيا، وهو يحاول الوصول إلى تسوية من نوع ما تنقذ رأسه بعد مذكرة المتابعة الدولية، وورقة وقف إطلاق النار هي مناورة ذكية ومغامرة في نفس الوقت، وانحناء للعاصفة في ظل إخفاق عسكري في جنوب لبنان، لأن الرأي العام الصهيوني ينطلق من قاعدة: ماذا خسرنا وليس ماذا ربحنا؟

4- الاتفاق يؤكد أن هناك توافقا دوليا واسعا كرس إيران كلاعب أساسي في المنطقة وكقوة عسكرية تقليدية حاليا وقوة نووية مستقبلا، وتهديدها بالقول إن خيار تنفيذ عملية “الوعد الصادق 3” مازال على الطاولة حتى بعد وقف إطلاق النار رسالة قوية، كما كرست السعودية كلاعب احتياطي ثان وقاطرة بديلة لجر القطار العربي من جديد نحو مسلسلات التطبيع والتسوية بعد تولي ترامب.

5- الاتفاق كرس هزيمة «إسرائيلية» استراتيجية مدوية، فبغض النظر عن الضربات الاستعراضية الإعلامية ومنها اغتيال رموز سياسيين وإعلاميين، ف«إسرائيل» مهزومة ولم تحقق أهدافها العسكرية والسياسية والاستراتيجية السرية والمعلنة.

6 -تنصيص الاتفاق على فترة 60 يوم رهان «إسرائيلي» على إدارة ترامب القادمة، في ظل تناقص المخزون العسكري الصهيوني بعد انخفاض الإمدادات الأمريكية والغربية، لإعادة بناء القوة الصهيونية.

7- المؤكد أن المسارات ما زالت موحدة عسكريا واستراتيجيا، ومتدرجة في التنزيل سياسيا، وإنه لا يمكن تحييد حزب الله والمقاومة في جنوب لبنان، وهذه خيارات استراتيجية لقوى إقليمية ودولية.

8- رغم تضمن القرار لهذه الصيغة “تعترف «إسرائيل» ولبنان بأهمية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701” وتركيزه على “الاعتراف بالأهمية” وليس عبارة الالتزام بتنفيذه، فهو يظل أرضية لأي اتفاق مستقبلي. وهذا انتصار للبنان لأنه إقرار بأن لا شيء تغير منذ 2006.

9- الملاحظ أن توقيت وقف إطلاق النار الذي تم الإعلان عنه أمريكيا في وقت لم ينعقد المجلس الحكومي اللبناني يوضح أصحاب القرار الحقيقيين، فوقف إطلاق النار قرار صهيوني محض بتغطية أمريكية.

10- تجريد حزب الله والتحكم في حركة الأسلحة وتكبيل يد المقاومة التي تشير لها سائر البنود هي من باب الاستهلاك الإعلامي ليس إلا، وهي كلام غير واقعي ومستحيل التنفيذ، و«إسرائيل» وأمريكا يعيان هذا جيدا من التجارب السابقة، فبعد قرابة عقدين من صدور القرار 1701 والذي نص على نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية، ومنع مبيعات أو إمدادات الأسـلحة والمعدات ذات الـصلة إلى لبنان.

11- الإعلان على وقف إطلاق النار أمريكيا و«إسرائيليا» في ظل القصف المتواصل من حزب الله لشمال الأراضي المحتلة هو إعلان عن أن خيار المقاومة والميدان هو سيد الموقف، خاصة بعد ما يسمى ب”الأحد الأسود” في «إسرائيل» الذي أظهر القوة الصاروخية للمقاومة والقدرة على اختيار التوقيت والأهداف في العمق الصهيوني.

وأخيرا أعتقد دون شك أنه قرار صعب على المقاومة في ظل التضحيات الكبرى، وفي ظل غياب الضمانات، وفي ظل غياب وضع عربي داعم، وفي ظل وضع داخلي مخترق، وإنه اختيار الاضطرار تحت النار، لكنه كان صعبا أيضا على العدو فهو قرار وصفته الصحافة العبرية وعلى رأسها صحيفة “يديعوت أحرونوت” بالشر الذي لابد منه ف”وقف إطلاق النار مع لبنان هو الشرّ الضروري، الأفضل الذي يُطاق قياساً للبدائل” وهذا ما أكدته هيئة البث “الإسرائيلية” نقلا عن مسؤولين سياسيين وأمنيين كبار صهاينة.

إن الاتفاق تشوبه نقاط ضعف أبرزها أنه: لم يتم تحديد منطقة عازلة، وغياب إذن صريح ل«إسرائيل» بمهاجمة لبنان عند حدوث أي انتهاك، ولا يتضمن تقييد المشروع الاقتصادي لحزب الله، وأن من سينفذ الاتفاق بجنوب لبنان هما الجيش اللبناني واليونيفيل وليست قوات أمريكية -بايدن أكد أنه لن يتم إرسال قوات أمريكية- أو عربية أو دولية كما طلب سابقا، وهذه كلها شروط حزب الله التي نص عليها القرار 1701 وتتشبث بها الدولة اللبنانية وهي الموقع على الاتفاق وليس حزب الله.

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.