في عيدها العالمي كل 8 مارس، ترتفع الأصوات والدعوات لإنصاف المرأة وإحلالها المكانة التي تليق بها، دعوات تستمد شرعيتها من الدونية المترسخة في المجتمع فترى المرأة في أحسن الأحوال ظلا للرجل، أو من النظرة التقزيمية والصورة النمطية تختزلها كائنا أنثويا مثيرا؛ دعوات تتفق في الهدف: إنصاف المرأة والاعتراف بها فاعلا مؤثرا في مختلف مناحي الحياة، فـالمرأة المؤمنة كالرجل المؤمن نصيبها من المسؤولية السياسية مثل نصيبه) 1 .
في هذا المقال، وخروجا عن المألوف، أعرض على المرأة أما وأختا وزوجا وبنتا ورفيقة درب نضال، نماذج من النساء سجل التاريخ مواقفهن وأخبرنا القرآن الكريم وحيُ الله الخالد عن مآلهن، لتختار المرأة اليوم في خضم هذه الحمأة طريقها؛ نساء تفاعلن مع واقعهن في إشارة قرآنية بليغة أن الإنسان مسؤول عن اختياره، مُثابٌ أو مُجازى عن أفعاله. يـقــول الحق سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ 2 .
على أساس قاعدة الإيمان بالله تعالى تم التمييز بين النموذجين، فامرأة نوح وامرأة لوط زوجين لنبيين فوتتا على نفسيهما فرصة الانخراط في مشروع الإصلاح، وتحملتا مسؤولية اختيارهما، ولم تحُلْ صفة الزوجية للنبيَّين عليهما السلام دون أن يحق عليهما جزاء دعاة الفساد والانحلال. عدالة إلهية ترتب الجزاء والعقاب على الأفعال لا الأنساب، وفي هذا السياق جاء التحذير النبوي لعمه العباس وقرة عينه فاطمة: “يا عباسُ عمُّ رسول الله، يا فاطمةَ بنتَ محمد، أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أُغني عنكما من الله شيئاً” 3 ، فـ“من يُبطــيء به عمله لم يُسرع به نسبُه” 4 .
مقابل هذا النموذج، آسية زوج فرعون ومريم ابنة عمران، الأولى عارضت مشروع الزوج/الإله فآمنت وصدقت برسالة سيدنا موسى عليه السلام، ولم تنل التهديدات ولا البطش الفرعوني من صلابة إيمانها وفازت ببيت في الجنة استجابة لدعوتها: رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. والثانية نموذج التقوى والانقطاع لعبادة الله فغمرتها العطايا الربانية، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقــــاً(5). مريمُ طفلةً كانت والكرامات تظهر على يدها، أعظمهن لزومها المحراب والعبادة. مريم المحراب، مريم الطُّهر، مريم نجيةُ الملائكة، مريم المصدقة بكلمات ربها وكتابه، مريم القانتة. )إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 5 .
وإن لم يُذكر في القرآن من الكاملات غيرُ مريم وآسية، فقد ذَكَر الوحي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم نماذج كاملة ليعلم الكل أن الاصطفاء الإلهي متصل)، فـالمؤمنة، عاشت في كنَف صالحيْـن، فـي زمن صالح، أو نشأت فـي عصر سادت دنياه حضارة مجرمة، لا يرفعها ولا يحطها إلا عملها) 6 . إعمالا للمعيار/الميزان: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفــَى 7 .
فانظري ـ يا أختاه وقد كثر خطاب وُدك ـ فـي أي سلك يكون انخراطك؟ أسلكُ الصلاح والإصلاح الممتد إلى الآخرة، سلكُ انبعاث الأمة محاربةً للأميات ـ ورأسها الجهل بالله والمصير ـ وتعبئةً للجهود، وجمعا للكلمة من أجل تكوين جبهة تناهض الفساد والاستبداد المنوِّم لإرادة الشعوب المستخف بذكائها، أم سلكُ الطغيان الموعود بالبوار والغرق إن لم يكن المادي فالمعنوي في طوفان الغضب الشعبي.
كيف تتحرر المرأة من دعوتين متناقضتين مرجعية، متفقتين مآلا ومخارجَ، دعوة تستند إلى فقه تقليدي ممالئ لحكم الجبر اختزل حديث “كلكم راع وكلكم مســؤول” في راعٍ مطاعة أوامره “منزهة” عن الخطأ، وفي رعية مأمورة بالسمع والطاعة اللامشروطة للراعي؛ فقه منغلق أحال إماء الله قواعد في البيوت محجورات عاجزات جاهلات مظلومات) 8 فـوأدَ فيهن روح المبادرة والتحفيز على الاقتحام.
ودعوة خادمة لمخططات الاستكبار ضمانا لهيمنته على الشعوب المستضعفة والحيلولة دون تحررها ونهضتها، دعوة تسوق للمسلمين ـ تحديدا ـ بضاعة التملص من الدين مغلفة بغلاف براق اسمه الديمقراطية وحقوق الإنسان… وتحاول نسوة الغرب أن يُصدِّرن إلى نسائنا بضاعة الانحلال والإباحية مغلفة في أستار المساواة في الأجور، والانعتاق من وصاية الذكور، ومنع تعدد الزوجات الـمُضر بوحدة الأسرة، وإنصاف المرأة في قسمة الميراث) 9 ؛ دعوة “تسربلت” مبادئ وتوصيات يراد لها أن تكون كونية تستبيح باسم الحرية قيم العفة والطهر وتخاطب في الإنسان الشهوانية والمتعة وتُغويه باستهلاك منتجات صناعية وفنية وثقافية تتفنن الشركات العابرة للقلوب قبل الجيوب في تطويرها. والمرأة في الدعوتين قطب الرحى ونقطة الارتكاز.
إنه لا سبيل إلى إنصاف المرأة وتغيير ما بالأمة إن لم نغير ما بأنفسنا. والخطوة الأولى إلى الشفاء معرفة الداء. وأخت الإيمان معنية بالعملية أول من يُعْنَوْن) 10 . وداؤنا استبداد قروني صادر من الأمة حق الاجتهاد والاختيار، وجاء الاستعمار فجدد لبوسه ورسخه في الأمة بلاءه، لذلك، فإن الحكام المعاصرين على رقاب المسلمين صورة لملوك الطوائف الانهزاميين، والتجزئات القطرية المعاصرة ما هي إلا فتل في الحبل الذي يمده لنا الاستعمار المعاصر لنشنق به أنفسنا. أجيلي النظر ـ يا أخت الإسلام ـ وارجعي البصر هل ترين من الحكام العاضين على رقاب المسلمين من وصل إلى الحكم بغير القوة العسكرية مباشرة أو وراثة عن جدود. يُـــورِّثُ الشعوبَ الإسلاميةَ والدٌ لولدِه؟ لا يوجد) 11 .
إن معركة المرأة، بل معركة الإنسان اليوم وغدا استشرافا لعزة الأمة تكون المرأة محورها وقائدها مع الاستبداد حليف الاستكبار وليست مع الإسلام، وإلا فواقع المرأة في الأنظمة الشمولية الجبرية غير الإسلامية هو نفس الواقع بذات المعاناة حرمانا وتهميشا وتجهيلا وتفقيرا واستغلالا!؟
[2] خواتم سورة التحريم.\
[3] الإمام مسلم عن أبي هريرة.\
[4] سورة آل عمران: 37.\
[5] تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين. الجزء: 2. ص: 288.\
[6] تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين. الجزء: 2. ص: 289.\
[7] أوائل سورة النجم.\
[8] تنوير المؤمنات للأستاذ عبد السلام ياسين. الجزء: 2. ص: 300.\
[9] تنوير المؤمنات. للأستاذ عبد السلام ياسين. ج: 1. ص: 99.\
[10] تنوير المؤمنات. للأستاذ عبد السلام ياسين. ج:1. ص: 35.\
[11] نفسه.\