توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها؛ الزوجة والحبيبة والسند والسكن.. لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو طالب؛ عمه وظهره وناصره .. في شهر واحد. وبقي صلى الله عليه وسلم وحيدا، حزينا، مهموما على الدعوة ومصيرها.
اشتد أذى قريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن مهد آخر للدعوة، فاختار الطائف؛ المدينة الثانية بعد مكة في المكانة وفي قلوب العرب، لكن أهلها لم يرحبوا به صلى الله عليه وسلم ولا بدعوته، بل عاملوه أقسى معاملة وطردوه شر طردة.
لقي صلى الله عليه وسلم عداس من مدينة نينوة قرية نبي الله يونس، وكأن الله سبحانه وتعالى يذكره بما أنزل عليه من قبل فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (القلم، 48)؛ لا تيأس، وبلغ ما أنزل إليك رغم المصاعب والعقبات، واصبر حتى لا يصيبك ما أصاب أخاك يونس.
فهام 1 على وجهه صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري إلى أين تقوده قدماه، غارقا في أفكاره؛ أهو غضب الله؟! “إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”، فيجيء الجواب في الحين: “يا محمد إن ربك قد سمع قول قومك إليك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربي إليك لتأمرني، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين..”.
واصل صلى الله عليه وسلم المسير، أنيسه ومؤنسه القرآن؛ يقرؤه بدون انقطاع فيسمعه الجن فيؤمنون به ويرجعون إلى قومهم منذرين يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (الأحقاف، 31).
لم يستطع صلى الله عليه وسلم الدخول إلى مكة، إلى بيته، فقد علمت قريش بقصته مع أهل الطائف، فلبث في غار حراء أياما إلى أن قبل أحد كبار رجال مكة إجارته، وهو المطعم بن عدي، فدخل في جواره وحماه هو وبنوه حتى دخل صلى الله عليه وسلم إلى بيته بعد أن طاف بالبيت.
سلسلة من المحن لاقاها صلى الله عليه وسلم، ويتوقع أخرى أكبر وأعظم، ما دامت قريش مصرة على كفرها..
ولكي لا يظل صلى الله عليه وسلم حبيس همومه وأحزانه وقريته وقومه ووقته.. أهداه الله سبحانه أعظم رحلة في الوجود، وغيّر من أجله نواميس الكون ليريه من آياته الكبرى؛ فطوى له المسافات حتى وصل إلى المسجد الأقصى في رمشة عين، وطوى له الزمن حتى جمعه بإخوته من الأنبياء والمرسلين، وطوى له الدنيا حتى رأى من آيات الآخرة جناتها ونارها، وطوى له عالم الشهادة حتى رأى من آيات الغيب ما لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب.
ثم كان مسك الختام وهدية الرحلة: الصلاة.
فالصلاة معراجنا إلى الله سبحانه وتعالى، وموعدنا اليومي معه، فهو عز وجل من حدد وقته ومدته..
هي مناجاتنا لربنا بلا واسطة ولا حجاب، “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي” 2.
وهي الراحة والسكينة، “يا بلالُ أقمِ الصلاةَ، أرِحْنا بها” 3.
وهي قرة العين، “جُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاة” 4.
وهي القوة والمنعة، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ (البقرة، 45).
وهي الملاذ من كل الهموم والأوجاع، “كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صَلَّى” 5.
فاللهم أحسن وقوفنا بين يديك.
[2] رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة
[3] صحيح أبي داود، 4985.
[4] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري لابن حجر، 3/20.
[5] أخرجه الإمام أبو داود في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان، الرقم 1319.