ما إن تشغل قناة أو مذياعا أو تفتح موقعا أو منبرا إعلاميا أو تتصفح جريدة أو مجلة حتى ترى مشاهد بشعة من مشاهد القتل والاقتتال بين أبناء أمتنا وسفك الدماء وتدمير المنشئات وتخريب الممتلكات وتشريد الأطفال والشيوخ والنساء، بل حتى الحجر والشجر ودور العبادة والحيوان لم يفلتوا من هذه الصور المريعة، بل وصل الجنون والخبال بمدبري هذه الأفعال المقيتة إلى الاعتداء على حرمة الروضة الشريفة حيث يوجد مضجع النبي صلى الله عليه وسلم.
هكذا أصبحت تلك المشاهد المؤلمة والدامية مألوفة، ألفتها أبصارنا وقلوبنا ونفوسنا. إن خطورة الأمر لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه حينما يعمد أعداء الأمة إلى إلصاق كل هذه المشاهد والمصائب والخطوب العظمى بأمة الإسلام وبدين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فيظهرون لك في الصورة والمشهد تنظيمات إسلامية وحكومات رسمية لدول عربية وإسلامية تتناحر فيما بينها وتتقاتل من أجل السلطة وكراسي الحكم والسيادة، موظفة في كل ذلك الدين مطية ومنطلق ومرجع لتحقيق أهدافهم وتنفيذ مخططاتهم.
والحال أن دين الإسلام منهم براء، دين لا يؤمن بالعنف والغلو والتطرف سبيلا، بل دين ينشد الرفق والرحمة والاعتدال والمحبة والسلام في الخطاب وفي الممارسة، مع الإنسان والحيوان وحتى الجماد والطبيعة.
إن ما تعيشه أمتنا الإسلامية من أحداث وحروب وويلات وفتن وخطوب ما هي إلا مكائد ونعرات من تخطيط وصنع أعدائها بغرض شيطنتها وإضعافها وفرملة نموها وتطورها وتفكيك وحدتها وتشويه حضارتها ومسخ هويتها، تمهيدا لنهب خيراتها وسلب ممتلكاتها وقرصنة مقدراتها.
فمن وهب للخلق والموجودات هذه الرحمة؟ وما حقيقة من بعث وأرسل رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وما سر هذه الحضارة يا ترى؟ وما طبيعة هذه الهوية؟ وما حقيقة ديننا الإسلامي الحنيف الذي عهد عليه أنه دين رفق ورحمة واعتدال ومحبة وسلام؟
سعة رحمة الله
إذا كان الدين الإسلامي الحنيف دين رحمة ورأفة ورفق واعتدال فإن سر ذلك من نبي الرحمة الذي استمدها من الحق سبحانه الذي من أسمائه الحسنى “الرحمان الرحيم”، وبهذا الاسم افتتحت جميع سور القران الكريم باستثناء سورة واحدة حتى يظهر لنا الحق سبحانه أهمية صفة الرحمة والرفق بين الخالق والخلائق.
قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس، والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم” 1 .
فرحمة الله سبقت غضبه، وعفوه سبق انتقامه، ورأفته سبقت عدله.
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: “لما قضى الله الخلق كتب كتابًا، فهو عنده فوق عرشه، إن رحمتي سبقت غضبي” 2 .
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن بعثه الله عز وجل للناس نبيا ورسولا صورة صادقة للدين الذي جاء به من عند الله، وما أجمل ما وصفته عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عنه، فقالت: “كان خلقه القرآن”.
أي أنه كان قرآنا حيا متحركا ملتزما بأحكامه، عاملا بتوجيهاته، متبعا لهديه، ومنتهيا عند نهيه، يدعو إلى نوره، ويحتكم إلى شريعته، من أجل ذلك قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (الأحزاب 21).
فهو القدوة إلى الخير والرحمة والأسوة بين الناس إلى رضوان الله، وأيما دعوة من الدعوات، لن يتأتى لها النجاح والانتشار ما لم يكن لها من أصاحبها والداعين إليها قدوات صالحة في التطبيق العملي لتلك الدعوة في أخلاقهم وسلوكهم ومواقفهم في الحياة ورفقهم ورحمتهم بالخلق.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في ذلك، فقد صنعه الله على عينه، وأدبه فأحسن تأديبه، وأعده لحمل رسالته وتبليغ دعوته وإخلاص العبودية لرب العالمين.
وإن ما نقرأه عما ينشر عنه في العالم الآخر من معلومات مغلوطة وكاذبة وذلك باتهامه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأنه رجل حرب ونهب وسلب، وأنه كان غليظ القلب، وأن الدين الذي جاء به دين العنف والرهبة والقتال، بل وصلت بهم الجرأة إلى اتهامه بمحاولته الانتحار، وصار بعض الرموز عندهم يُنعتون بأنهم رجال المحبة والرحمة والسلام، وتناسى الناس في زحمة الكذب الإعلامي وتزوير وتزييف الحقائق التاريخية والدينية والثقافية شخصية النبي صلى الله عليه وسلم التي نالت القدر الأوفى من كل الشمائل والخصال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا.
فرحمة محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أمامنا المثل الأعلى في جميع أحوال الحياة؛ في السلم والحرب، في الحياة الزوجية، مع الأهل والأصحاب، في الإدارة والرئاسة والحكم والسياسة، فهو المثل الكامل، وقدوة الرجال وحبيب الله ورحمة العالمين وأساس سلم العالم ورمز المحبة والسلم والسلام.
فهو مثل أعلى للرحمة الإلهية لذلك وصفه الله تعالى بأنه رؤوف رحيم. كما أن رحمته شملت أسرته وأمته وأصحابه، فقد كان صلى الله عليه وسلم خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته، من طيب كلامه، وحُسن معاشرة زوجاته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
فقد كان منهجه الرحمة بالعباد والتخفيف من الإصر والأغلال التي عليهم، وهو في هذا يقول صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء”.
وكانت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم قبل غضبه، بل إنه في الحرب كان يقاتل بشجاعة، ولكنه أيضاً كان صاحب شفقة عظيمة، كان سياسياً، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.
ففي غزوة أحد استشهد عمه حمزة رضي الله عنه، ومُزّق جسده تمزيقاً، كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً، وشُجّ رأسه المبارك صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رباعيّته، وغطّى الدم جسده الشريف، وبينما كان المشركون جادّين في حملتهم لقتله كان أكثر رحمة بهم، وكان يدعو: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، فهل يوجد أرحم من محمد في مثل هذه اللحظات وفي مثل هذه المواقف.
هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف وهذا هو محمد النبي صلى الله عليه وسلم قائد هذا الدين وهذه رحمته التي شملت كل الناس، واستمرت دستوراً هادياً إلى أن تقوم الساعة، وليست تلك الرحمة الكاذبة التي تأتي ردود أفعال من أناس يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، كما أنها ليس تلك الرحمة ذات الوجهين التي تُطبّق على البعض، ويُحرم منها البعض، كما نراه في كثير من الشخصيات والنظم والقوانين الدولية والمحلية، التي تحاكم بعضا وتستثني آخرين، أو تلك المؤسسات والشخصيات التي ترأف وترحم الحيوان، ولكنها تشرّع لظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
قواعد وضوابط الغزو في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد سن الرحمة المهداة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قواعد وضوابط خاصة في التعامل مع الخصوم والأعداء، تنبني على القوة لا العنف وعلى الرفق والاعتدال لا الغلو والتطرف، وعلى الاختيار لا الإكراه، فنهى جنده عن المبادأة في الحرب والغدر وقتل الوليد والشيخ والمرأة والمقعد والأعمى والمجنون وقطع الشجر والتمثيل بالجثث وحثهم على حسن معاملة أسراهم وعدم قتل جرحاهم.
عن الإمام الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلوا ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها، وأيما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار حتى يسمع كلام الله، فإن تبعكم فأخوكم في الدين، وإن أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا بالله).
وهذا يؤكده ويثبته قوله تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين [البقرة: 190].
يستنتج من الآية الكريمة ومن الحديث النبوي أنه من لم يقاتل ولم يبد منه ما يضر المسلمين من رأي يفيد الكفار أو تحريض أو مال ونحوه، فإنه لا يجوز قتله أو مقاتلته، وأن النهي عن قطع الشجر وإحراقه وإغراقه إلا للمصلحة الحربية يتشابه مع ما تنادي به القواعد الدولية الوضعية الحالية، التي لا تجيز استعمال وسائل مخالفة للمبادئ الإنسانية، وأن الحرب في الإسلام لا تتسم بروح عدائية ظالمة همها الوحيد التنكيل بالعدو، والإضرار غير المشروع به وبالمدنيين العزل، امتثالا لقوله تعالى: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها [الأعراف: 56].
وهذا ما استقته وقررته المادة 22 من لائحة لاهاي للحرب البرية، التي نصت بعدم شرعية استعمال الوسائل غير المشروعة للإضرار المتعسف بالعدو.
كيف نتمثل روح الرفق والرحمة النبوية في سلوكنا الدعوي ومنهجنا التغييري خطابا وممارسة؟
نظرا لمحورية الرحمة والرفق بالخلق في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وفي منهجه الدعوي خصص الأستاذ ياسين في كتابه المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، شعبة عنونها باسم شعبة الرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق، حيث دعا من خلالها إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في حلمه وأناته وصبره وشفقته على الخلق، حيث قال: ويكون من صلب التربية والتعليم النظر في أمثلة حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأناته، وصبره، وتحمله، وشفقته على الخلق، ليكون ذلك لنا نموذجا يحتذى. فإننا لن نسع الناس، ولن ينفتح لنا الناس، إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم، وحلمه…) 3 .
كما جعل الإمام رحمه الله الخصلة الثامنة من خصال المنهاج التؤدةً، ويعني بها من بين ما يعنيه الرفق والتريث والتثبت وعدم استعجال قطف النتائج، وعفو وحقن للدماء، وأورد فيها كلاما نفيسا حيث قال: إن حلمه صلى الله عليه وسلم ورفقه حتى بالمنافقين يعطينا نموذج السلوك في فترة الانتقال حين يتعين علينا أن نحبب الإسلام لأقوام ألفوا التحرر من كل ضابط خلقي) 4 .
فبناء أمة قوية متينة، يقتضي منا بناء رجال ونساء دعاة لا قضاة، يقتضي منا بناء رجال ونساء ينشدون الزين لا الشين، قدوة وأسوة بمعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: “ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه”.
الرفق زين والعنف شين، دعوة شريفة إلى الرفق مع الأهل والولد والمجتمع والجيران والناس أجمعين، سواء أكانوا أصدقاء أو خصوما، دعوة إلى التراحم والتلاحم واللين، دعوة هي إلى التأسي بأخلاق الإسلام الذي من معانيه الكبرى الرفق والرحمة والمحبة والسلام، فمهما كانت ضغوطات الحياة وصعوباتها، ومهما كانت درجة الاختلافات في وجهات النظر والرؤى والتصورات، فعلى الإنسان أن يعيش معاني السلام في نفسه، فمن لا يعرف السلام في نفسه ذكرا لله وللموت وإقبالا على الله وتوبة إليه لا يمكن أن يشع به على الناس، فكل إناء ينضح بما فيه.