في ذكرى رحيل جبل من جبال الحق والدعوة، ورحمة من رحمات الله الكريم، في ذكرى رحيل سيدي محمد العلوي السليماني رحمه الله ورفع مقامه.
تَحُلُّ ذكرى رحيلك سيدي للمرة الثانية عشرة، ولا زالت روحك الطاهرة السّمحة تغمرنا بالدّفء والأنس والفيء المراد، ولا زالت نظرتك الحانية تحفّنا بالعطف واللّطف وصدق الوداد، وطيف طلعتك البهيّة يُظِلُّنا من حَرِّ العدا في هذي البلاد، وبحَّةُ صوتِكَ الملتاعِ تهدهد المسامعَ والقلوب، وكلماتُكَ المرويّةُ بالصّدق تُحْيِي أرواحَنا وتُسْنِدُ أيامَنا من عنتٍ أو لُغوب، كأنك سبقتنا إلى غرفة أخرى في استراحة من دنيا الكُروب، وتنتظر قدومَنا بلهفة الوالد أن نضلّ عن النهج في حمأة الخطوب، أو نزيغ عن نورٍ يُضيءُ لنا رُشْدَ الدروب..
وما رحلت إذ رحلت سيدي، سوى أنك سبقتنا إلى سعة الرحمن الرحيم، وسنلبث خلفك قليلا قبل أن يجمعنا المنّان الكريم، في مستقر الرحمة ومقعد الصدق بجاه نبيّه الكريم، هذا رجاؤُنا ومُنانا في الله تعالى الوهّاب العظيم..
وما رحلتَ إذ رحلتَ، ولكنّك بلغتَ سابقةَ رِفعتك، ولَبِسْتَ تاجَ صُحْبَتِك، وأمضيتَ عزمَك وحزمك، وختمتَ جهادَكَ وسعيَكَ، فأزف رحيل الجسد، واستمرّ العمل وامتدّ المدد، بالعلم النافع الداعي للنور والرّشَد، بالوِلدان الصالحين يدعون لك، ويدعون بك، مصرِّحين بالجِذْرِ والأسبابِ والسَّنَد، وبالصدقات الجاريات في كل مجالٍ وبابٍ أو بَلَد.
وها نحن أولاء يا سيدي نتشمّم عبير الذكرى، ونتودّد إلى نفحات روحٍ أشرقت بذكر ربّها وسابقة فضله وصحبةِ وليّه، ها نحن أولاء نحاول أن نقتفيَ تلك الخطى المسنونَة المأذونة، ونتشبّه بذلك الإهاب الوارف، والحبّ الجارف، عسى تصيبَنا في تطلّعنا بعضُ أنسام ذلك الدّرب، وتتدفّق فينا وحوالينا فيوضاتُ ذلك السموّ والقرب، وعسى تقعَ خُطْوَةُ الرجاء على خُطْوَة العطاء، ويَفِيءَ ودادُنا على قَدَرٍ إلى جبل الشوق، فَنَقْبِس من نور التجلّي الأمجد، وننفض عنّا غبار القعود لنُبَشَّرَ بالرِّضى ونَسْعَد.
فيا سيدي الغالي، معذرةً إن فترت منا همّةٌ كانت لديك العالية الحاملَة، أو تدنّى منا تَأَسٍّ كانت لك فيه جياد السبق العاديات الصائلَة، فقد علّمتَنا قصد السبيل، في غير توانٍ ولا تأجيل، وعلّمتنا الصبر في مكابدة الوقت العليل، والاستمساك دوما بكفّ الخليل، مهما تخبّط البغي الحسير الكليل، فأعمل فينا سمّه وحقده وظلمه الثقيل، أو كان وَالِغًا في نهجنا وعِرْضِنا بِسِحْرِ التشويهِ الممنهجِ بفذلكات القالِ والقيل..
ألست أسرعنا دمعةً إذا جرى بِاسْمِهِ لِسَانُ من ذَكَر، وأفرحنا به إذا لاح للنظر، وأحرّنا زفرةً إذا ما تذكّرتَ حُنُوَّهُ وحرصَهُ وظلَّهُ الوارفَ كسامقِ الشّجر، وَحُبَّه ونبضَه وكَفَّه كغيمةِ رحمةٍ أو مَطَر، وبسمةً قَدَّها الخالقُ من ثَغْرٍ صبحٍ باسِمٍ أو سَحَر، ونبرةً ونظرةً توارى حَيِيًّا من بهائها وجهُ القمر!
ألستَ من كان يعلّم خاملا مثلي كيف يوقد جمرته، وتائها مثلي كيف يجدّد صحبته، وقاعدا مثلي كيف يعقد بالصّدق والعزم رايتَه..
وعلمتنا كيف نخدم بافتقار دون منّة، وكيف نكسب القلوبَ لنستكثر من معارف الجنّة، وكيف ننسُبُ الفضلَ لأهله الذين يحملوننا ويحملونَ عنّا..
لقد جالستكم أيّاما كريمة طيّبة، وشربت في حضرتكم كؤوسَ محبّة وافرة صيّبة، وحاذيتُ تلك الأطايب في كل حركة أو كلمة أو نظرة جَرَتْ بها حظوظُ سابقةٍ واهبة، فما رأيتُ إلا شوقا يتسعّر، وحبا يتفجّر، وهمَّة هناك، في أعالي القرب لِلُّقْيَا تتحضَّر..
جعلتني أدنو بحدَبٍ من إهابك، وسكّنت ارتعابي بهمسك وإسعافك، ولا زلت سيّدي، تُواسي جراحي بوعدك وإنعامك، حين تزورني مرارا في عوالم الغيب، تسدّد ما اعوجّ من حالي بنصحك وإشفاقك. كأنّك بقربي لم تبرح، تمسّد قلبي ليطمئنّ ويفرح، كأنّك تطلّ من سجوف الغيب حانيا، وتتابع سيرنا بروحك الكبيرة مُسنِدا داعيا، كأنّك هنا بيننا، نشمُّ خطاك عبيرا غاليا، ونشرب صوتَك ترياقا شافيا.
ولقد زرتك وصاحبَيْك، بباب دُكَّالَةَ في مراكش مسقِطِ حظِّكَ وهواك، فجثوتُ على ركبتي أمام قبريكما باكيا، لا أدري ممّ كانت دموعي تسحّ وأنا أبكي بكائيا، حتى انتبهت إلى شواهد القبور، حيث المعنى دانيا يدور، والعبرة عمل شاهد في النور، فأدركت أن طريقَكم ليست نواحا ملتاعا، ولا حنينا باكيا ساعة، وإنما صفاءُ نيّة، وسلامة طويّة، وتخليص صحبة عالية سَنيّة، بالذكر والجهد وزوال الحرص على الرياسة والإنّيّة، مع الصبر في سِربِ جماعةِ دعوةٍ قاصدةٍ عَلِيّة، وجهاد بناءٍ وصَدْعٍ لا يعطي الدنيّة.
والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أهل التقى والنّقا والذّمة الوفيّة، صلاةً تنجينا بها من كل بلية أو رزيّة، وتجعلنا على خطى أكابرنا لا نحيد عن الوصّية.
عبد القادر الدحمني
سوق أربعاء الغرب في: 02- 12- 2020.