إن المؤمن الساعي إلى صلاح الأمة على ما صلح به أولها ليكاد يهتزّ وهو يرى ما اعتقد أنها بذور قيام الأمة يتم اقتلاعها اقتلاعا وقد كانت هبّات، في 2011، على الظلم، فاستبشر بها وفرح، لأنها بداية خلاص من ربقة الاستبداد المحلي والاستكبار العالمي، قبل أن يرتدّ عليها المتآمرون، في مصر وأكثر من محلّ، وأخيرا في تونس الخضراء.
إن إعمال عين الوقائع دون عين الحقائق في النظر، والوزْن بميزان المادة دون ميزان الإيمان، يجعل الطامحَ إلى التغيير الصادقَ يحتارُ فيما يرى، ويهتزّ، ويخضع للوقائع.
من ينظر من أعالي التاريخ يلتمس طريقا منيرا إلى سنن الله، لا يجرفه طوفان المعلومة وتضارب التحاليل، في زمن الأنترنت الجارف، عن تجديد الثقة في وعد الحق سبحانه بزوال غمّة الأمة بنصر عباده المؤمنين، وهو نصر الأمة، كل الأمة، لا نصر طائفة أو جماعة أو ائتلاف سياسي.
يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، في “حوار مع الفضلاء الديمقراطيين”: (نوقن أن ما من حركة في الكون ولا سكون إلا بإذنه وتدبيره وفعله، وأنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن ما يحدثه سبحانه في التاريخ وفق سننه في الخلق أو خرقا لها أو اختصارا لها ودمجا ما هو إلا صور من بلائه للعالمين).
ما حدث في تونس أخيرا، وقبلها في مصر، واليمن وسوريا، أدعى أن يبثّ الشك في النفوس الغضّة الطرية، التي ما استوى إيمانها على مطلق اليقين في الله ووعده الحق. ووعد الله حقّ أن الله ينصر عباده، وأن أمر الأمة إلى صلاح بعد حكميْ العضّ والجبر كما جاء في الحديث الشريف المبشّر عن الخلافة الثانية.
لكن هل يعتقد المؤمن الساعي بالخيرات في أمته أن التغيير نزهة أو عملية سهلة يتم فيها طيّ للوقائع بضربة حظ أو تغيير فجائي (إلا أن يشاء الله الجواد الكريم)؟
التغيير عمل دؤوب وسعي حثيث وتحرّ صادقٌ لصلاح الأمة، ومقارعةٌ لا تلين للاستبداد، ومصانعة واقتحام للعقبات فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة، وتقليب للنظر في الحكمة التي أودعها الله في كتابه العزيز وفي كتاب التاريخ المفتوح للاعتبار.
التغيير تغيير إنسان، وليس قلب نظام. التغيير تأهيل أمة لـ”الخيْرية” التي وردت في القرآن الكريم. وليس تغييرا سياسيا قد تطيح به المكائد عند أول انعطاف.
يقول الإمام المجدد رحمه في كتاب سنة الله: (بداية الطريق الصحيح أن ندخل التحديات البادية في الآفاق في معادلة واحدة إلى جانب الفساد الواقع في أنفسنا، وأن نتعلم من سنة الله المقروءة في القرآن ومن سنته الحية أمام أعيننا في تاريخ أمس واليوم أن الله تعالت قدرته لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
المؤمن مطالب بالعمل والإخلاص فيه وبالإحسان (الإتقان)، ولا يُسأل عن النتائج ما بذل وسعه واستنفد أسباب طلبه. النتائج مرتبطة بصنع الله وتدبيره وحكمته البالغة. يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة التكوير: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
لذا كان الإمام المجدد يلحّ إلحاحا على أن رأس الأمر وأسّه تربية وقومةٌ في الإنسان تترتّب عليها قومة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وليست مفصولة عنها. هذه مهمتنا، والمطلوبُ. ورسالتنا للعالمين رسالة تبشير لا تنفير، وبشارة خير لا تثبيط أو إحباط.
كتب الإمام رحمه الله في الإسلام والحداثة: (حرفتنا التربية. هي وسيلتنا لتغيير الإنسان حتى يتبنى موقفا ونظرة وإرادة تتعالى على الظرفيات التاريخية، وتتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة التي تحيطنا بها سياسة المنـزل الإقليمي الصغير، وذهنية الهوية التجزيئية….. مشروعنا بعيد المدى، والتغيير العميق الذي يتم بواسطة التربية والإقناع لا يمكن أن يعاش إلا بعد مخاض عسير).
وما يجري في أمتنا نراه، بتوفيق من الله تعالى، من “المخاض العسير”.