يعود رمضان لنرجع إلى ذواتنا، لنجدّد إيماننا، ونصحح فهومنا واعتقاداتنا. لا يعود عبثا، ليست دورة فلكيّة فحسب، إنه يعود معذرة إلى ربّه لعلنّا نتذكّر يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183].
ولعل ممّا يجدر بنا تصحيحه هذه الأيام المعلومات علاقاتنا الأسرية التي تحتاج لإعادة الصيانة، بأدوات متينة وفهم خبير واضح يجعلنا نرى ذواتنا على حقيقتها؛ ضعفاء فقراء إلى ربّنا، محتاجون إلى بني جنسنا حاجة بنيويّة لنتعارف ونتعاون ونتذاكر ونتعلم، وليؤنس بعضنا بعضا.
هكذا أنت أيها الإنسان؛ كائن اجتماعي بطبعك. وإن حاجتك لأسرتك لأشدّ لإشباع حاجاتك النفسية والعاطفية والماديّة والاجتماعية، وقبل ذلك وبعده لإرضاء مولاك صاحب الأمر وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال: 75].
ومن الأبواب الشيطانيّة التي يدخل منها إبليس لعنه الله تعالى ليلوّث فطرة الإنسان؛ تضخيم الأنا حتى ترى أنها أكبر من أن تصبر على أذى أو تتحمّل مكروها أو تتجاهل سقطة في سبيل الحفاظ على لحمة التماسك الأسري.
وقد ساعدت بعض الأبواق في مواقع التواصل وغيرها على تلميع صورة الأنا وتضخيمها لتصبح محرابا لصلاة المتكبّرين الذين يتشدّقون بعبارات مائعة وعائمة لقطع العلاقات وكسر الترابط الأسري؛ كعبارة النرجسيّة، فأصبح كثير من الناس يريدون التخلّص من نرجسيّة الزوج أو الزوجة أو الأب أو الأمّ أو الإخوة.
هناك حملة تدعو للقطع مع العلاقات السّامّة التي تكون في الأقرباء بشكل خاصّ بحكم الاحتكاك المباشر معهم، فتتقطّع الأرحام باسم الأنا ويختفي القاموس النّبوي في التّراحم وخفض الجناح والصّبر مع ذوي الأرحام وخصوصا الآباء والإخوة وكذلك الأزواج والأبناء. والنتيجة أن تصبح أسرنا مفكّكة، وقلوبنا متنافرة، لا تستدعي إلا السّيء من الذّكريات، علاقات باهتة باردة مع الأخوال والخالات والأعمام والعمّات. فهل حقّا نكون في أفضل حال مع صيحة الأنا هاته؟
إنّنا بهذا الحال نثلج صدور أعدائنا إذ ننجح مخطّطاتهم التّدميريّة لأهمّ لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي، نقتفي أثرهم في تمزيق أسرهم؛ ليرمى الآباء في دور العجزة، ويترك الأبناء دون تربية وتهذيب، وتنعدم الثّقة والرحمة والمودّة بين الأزواج..
إنّنا نؤذي أنفسنا المحتاجة لجذورها وإلى دفئ تربتها، كيفما كانت، فهي التّربة التي نبتنا فيها، نحتاج إليها لترسخ وتستقرّ الأنفس والعواطف في عالم موّار مختلط بالأفكار والقيم المتضاربة.
إنّ عصيان الوالدين أو عدم البرّ بهما والإحسان إليهما أو التضجّر منهما كبيرة من الكبائر قرنت في كتاب الله العزيز بالشّرك وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]. وأوصى عز وجل بالأزواج خيرا، وجعل علاقة الزّوجيّة آية من آياته العظيمة وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21]؛ نعم آية أن يعيش المرء مع من يخالفه جنسا وتربية وفكرا تحت سقف واحد وحياة مشتركة ويجعل بينهما مودّة ورحمة من خلال تطاوعهما وتراحمهما لبناء النّواة الأساسية للمجتمع الإسلامي المتماسك، وبدونها تنحلّ القيم وتضيع المبادئ، إنها الحضانة والمدرسة الأولى والتربة والمنبت، ومن قطع عن جذوره شقى ولم يسعد ولو استغنى بوسائل مادّيّة.
إنها دعوة لوصل الأرحام، فهي من أعظم القربات في هذا الشهر الفضيل، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد: 21]. ووصل الأرحام يبدأ مع من قطعت معهم الصّلات من الأقارب، وذلك يحتاج لصبر ومصابرة تسكن فيها الأنا وتتزايد الحاجة إلى ما عند الله، فيثيب سبحانه بتليين القلوب بعد طرقها وفتح مغاليقها وجمع الشّمل، وأخرى نحبها ثواب وعطاء جزيل، فصلة الأرحام تفتح أبواب الأرزاق وتنزل البركة، وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه “من سرّه أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه”.
وإن لم تلن القلوب بسرعة لطول الهجران أو لعمق جراح الماضي، فطرق القلوب بالمحبّة والصلة والهديّة والدعاء يبقى واجبا على من يرجو ما عند الله، وما عند الله خير وأبقى، والصّبر الجميل ديدن الأنبياء والمرسلين مع عامّة الخلق فكيف بذوي الأرحام، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن عرف ما قصد هان عليه ما وجد. والله المستعان لكل خير.