يقول سبحانه وتعالى: وَهُوَ اَ۬لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِۦۖ وَهُوَ اَ۬لْحَكِيمُ اُ۬لْخَبِيرُۖ [الأنعام، 19].
يأتي الإنسان إلى هذا العالم الفسيح الذي لا يعلم عنه شيئا، وهو الضعيف والمحتاج إلى غيره بجبلته، فيجد نفسه غريبا وسط بيئة قُدِّر له أن يعيش فيها بلا حول منه ولا قوة، فيهيئ له الخالق كل ظروف العيش الكريم؛ بدءا من القلب “الأم” الذي يضمه إليه عطفا وحنانا، ومن المأكل والملبس والمأوى الذي يأويه، ويستريح في طمأنينة وسكينة تجعله ينتصر على قلقه الذي سكنه منذ الوهلة الأولى رويدا رويدا، بل وينسجم مع الواقع الجديد الذي كان يهابه من قبل حتى يصبح جزءا منه. ثم يشتد عوده ويحسب أنه على شيء، فتراه يعمل فكره ونظره ليقنع نفسه أنه موجود! وأن له خصائص ومميزات تمكنه من فعل في التاريخ وصناعته، إلى امتلاك المستقبل، عبر وسائل التطور والتكنولوجيا والاختراع المذهل الذي فتق الكون وظهر عليه -في زعمه-، وأنه ليس هناك قوة قاهرة بعده (تماما كما صرَّح بذلك صانع سفينة تيتانيك؛ بقوله أن الجودة الخارقة التي صُنعت بها لا يقدر عليها حتى الإله!)، وقد نسي بعد هذا الظهور المزعوم، والتفوق العجيب، أنه لم يكن شيئا مذكورا! وصدق الله في قوله وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاٗ وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس، 77].
1- القوة القاهرة
مهما نظّر الإنسان وفعل وأبدع تبقى الصفة اللاصقة به هي “العجز والعوز”، وهذا يتناغم تماما مع الوظيفة المنوطة به في الحياة الدنيا “العبودية لله” وخاصية “الافتقار إلى الله” التي تستشعر وجود قوة قاهرة تملك زمام الأمور كلها.
هذه القوة القاهرة هي الركن الشديد الذي يأوي إليه العبد طوعا وكرها، فيجد فيه برد العيش الكريم، وسكون النفس القلقة، وانفتاحا على عالم زاخر بالعطاءات والفيوضات الإلهية، فلله خزائن السماوات والأرض، يعطي منها كلَّ خلائقه بقدر معلوم، فهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ولا يمكن للمخلوق أن ينازع الخالق في قوته وملكه، ومن حاول ذلك قسمه الله ولا يبالي، أي ضيعه وشتت أمره، وأصابه عذاب أليم في نفسه وماله وولده، فلا ينعم براحة البال أبدا. عكس المؤمن الذي يتوكل على ربه ويُرجع الأمر كله إليه، أولئك يمنحهم الله الرضا، فينعمون بالسعادة القلبية مهما أعيتهم الحيلة وغالبتهم الدنيا. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حينما كتب لتلاميذه يذكرهم – قولا وفعلا – بالمعنى الحقيقي لقوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وتركها مقولة يرجع بها الصدى: “ما يفعل أعدائي بي؟ إن جنتي وبستاني في صدري.. إن قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي سياحة”، لاحظ معي كيف يفهم العقل المؤمن السليم عن ربه، فينقاد لأحكامه ويتناغم معها دون الاستسلام لغيره!
إنّ استشعار “القوة القاهرة فوق العباد” لا يعني تماما الاستسلام والكسل بدعوى عدم القدرة على فعل شيء، بل سبقتها قبل ذلك دعوة الإنجاز والإبداع وتسخير كل القوى والقدرات التي أوجدها الله في الكون والإنسان من أجل تحقيق العمران المطلوب في الأرض؛ وَقُلِ ٱعْمَلُواْ [التوبة، من الآية 105]، و“اعملوا فكل ميسر لما خلق له” [من حديث رواه البخاري]، لكن منتهى العمل ومرجعه إلى الله، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى [النجم، 42].
2- هكذا رأيت الله “القاهر”
لقد أحببت اسم الله “القاهر” في كثير من الوقائع والتجارب التي مرت بي في حياتي، ووجدت الخلاص من تعب الدنيا ونكدها في ذكر المعاني الجليلة له، فكلما عُرضت علي حاجة رأيت القاهر هو القاضي، وإذا هممت بفعل أمر ما رأيته هو القادر، وإذا حاولت التماس أسباب الرزق وجدته هو الرزاق، وإذا تأملت حال العباد رأيته هو الباسط والقابض، وإذا فكرت في عاقبة الظلمة أيقنت بعدله وحكمه، وإذا نظرت في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار علمت صنعه وإتقانه، وإذا نزل بي عسر جاءني من بعده يسرين، وإذا مسني طائف من الشيطان تذكرت “القاهر” فإذا قلبي من المبصرين.
رأيت “القاهر” في كل تفاصيل حياتي؛ في الزواج، في العمل، في الولد، في الصلاح والطاعة، في الاختيار والانتماء… وفي كل حركة وسكون.
هكذا رأيت الله هو القاهر فوق عباده؛ يتصرف في خلقه كيف يشاء ويعطي ما يشاء لمن يشاء متى يشاء، ولا يُسأل عماّ يفعل وهم يُسألون…
أتذكر ذات يوم لما كنت طالبا باحثا بالجامعة، وقد نزلت بي فاقة مالية اقتصادية خانقة فكرت حينها في الانقطاع عن الدراسة والتوجه إلى ميدان العمل اليومي الشاق والمضني، فإذا بالقوة القاهرة تتدخل لتذليل كل العقبات واختراق كل الواجهات، لتمنح لي تأشيرة عبور إلى الضفة الأخرى لمتابعة الدراسة والبحث عن مستقبل أفضل… لقد قضي الأمر ورفعت الأقلام وجفت الصحف!
رأيت الله “القاهر” ساعة فكرت في الزواج، فهام قلبي وطاش عقلي وفكرت وقدرت ثم نظرت وبسرت وعزمت، لكن دون جدوى! وفي ليلة كنت في موعد مع “القاهر” رفع عني الستار فرأيت زوجتي تنتظرني في روضة من رياض الجنة (قصر مشيد ومياه جارية وزهور ربيعية)، استيقظت من منامي ثم اتبعت سببا حتى بلغت قصدي والحمد لله رب العالمين.
فاطمئن أيها الإنسان، واعلم أنك ما دمت تعيش في مملكة “القاهر فوق عباده” لن يضيعك ولن يسلمك لغيره ما دمت عبده.