يا أيها الزوج رويدا…

Cover Image for يا أيها الزوج رويدا…
نشر بتاريخ

وأنا أمتع ناظري وأبهج فهمي بحديث سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: “يا أنجشة رويدا، سوقك بالقوارير” يعني بذلك زوجاته رضوان الله عليهن وهن في هوادجهن، أرخي حبال السمع والإنصات لحكاية فتية شباب عن أمهم التي اختطفتها يد المنون قبيل رمضان، وآثار الفقد لا تبرح كلماتهم. كيف سيكون البيت بعد غياب النور والأنس كما يحلو لابنها البكر أن يلقبها بذلك؟ يحن المطبخ الذي أمسى كئيبا للمساتها، وكذا الأواني وكل أثاث المنزل. يستطرد الأصغر فيهم: من يستقبل رمضان ونفحاته، وبركاته وقيامه وقرآنه؟ كما عهدنا ذلك في مشكاة البيت المنطفئة. أما الأوسط فيذرف الدمع ترحما عليها متحدثا عن صبرها وكتمها معاناة الجهد والإجهاد في عمل البيت والتربية والرعاية وفي وظيفتها خارجه. إنها الأم والزوجة والمرأة لا يعلم قدرها وكيفية مخالقتها إلا ما سطرته النبوة العصماء تربية للأمة من بعده بالمواقف والأخلاق والإحسان والخيرية التي أفاضها النبي الرحمة المهداة من رب العالمين على نساء العالمين.

يذكرنا رمضان المطهر الأبرك بالتسابق على المسير للآخرة، والقربات والطاعات. ويحثنا صاحب الشريعة والبرهان أن رمضان شهر الإحسان والأخلاق بالدرجة الأولى، فكما يفسد الصوم بفساد النية، تضيع الشعيرة العظيمة بالغلظة والفظاظة وهي من أسوء الأخلاق.  رمضان يجمع الأمة على ربها سبحانه وتعالى، وفيه تذكرة لطيفة لانجماع الأسرة على مائدة الرحمن، حول ذكره وشكره وحسن عبادته. هو بوابة ربانية تهدى كل عام لذوي الألباب، للتصحيح والتغيير وتدارك مافات.

1- رفقا بالقوارير في المسير

أخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مسيره، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق قال: فكان نساؤه يتقدمن من بين يديه فقال: “يا أنجشة ويحك، ارفق بالقوارير”. وعند البخاري في الأدب (وذكر أنه كانت معهن أم سليم رضي الله عنها) فقال: “يا أنجشة رويدا، سوقك بالقوارير” 1. هذا الحديث يندرج في باب مداعبة وترفق النبي بأهله، حتى في السفر وهن على صهوة الرواحل. هذا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة وحسن عشرة زوجاته الكريمات.

عبارة “سوقك بالقوارير” يعلق عليها الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الأدب (ص41) في صحيحه قائلا: “فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بعضكم لعبتموها عليه” 2. لم يكن التلطف الجميل بالنساء عادة في صفوف المسلمين الأوائل إلا بعد أن تعلموها من جناب النبوة الكريم في معاملته لزوجاته. واليوم ما كانت عبارات النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يطلق على عواهنه لنسرده في الخطب والمنابر دونما تنزيل فعلي في واقع الأسرة على وجه الخصوص، ولكن هي مسار دقيق في علم التربية والأدب النبوي العظيم يورثه لأمته أسوة حسنة به في الخيرية، وفي تلطفه بالزوجة خاصة وبالمرأة عامة في كل مناحي الحياة.

المرأة التي ترفقت بها النبوة هي نفسها من يحتضن أنوثتها وعاطفتها في مقام آخر: “تعالي حتى أسابقك” 3 مخاطبا السيدة عائشة رضوان الله عليها. رفعت النبوة العصماء منزلة المرأة بعد أن كانت ممتهنة بين ظهراني جاهلية قريش وعاداتها، فأضحت في حضن الإسلام والإيمان والقرآن محمية من القهر والتهميش. أعظم بذلك أن تكون النساء وصية النبي الخالدة قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة عمود الدين. فمن قوامة الرجل أن يسعى لتحقيق أواصر التعاطف والتلاطف في أسرته، لتحصيل السكن والمودة والرحمة. فلا سبيل لزرع هذه الشتلات المباركات إن لم يكن السماد حسن الخلق والمعاشرة بالمعروف. هما من كمال الإيمان والإحسان في العبد.

2- حول مائدة الرحمة

تلتف الأسرة حول مائدة إفطار رمضان فرحة بفطرها، داعية ربها، شاكرة لأنعم الرزاق ذو القوة المتين عليها، متوسلة للبر المولى أن يتقبل الصيام والقيام، ويسبغ عليه الإيمان والاحتساب والإخلاص. ليس هذا محض أماني، وليس ببعيد على الأمة المحمدية أن تغمس أسرها في بركات وخيرات هذا الشهر الفضيل. ليكون للزوجة والزوج حظ وافر من الخيرية النبوية، فيشملهما عفو المولى تعالى، وليعم بره على الأبناء والجيرة والأرحام. فحسن أو سوء المعشر عدوى إما خيرا يجلبه أو وبالا يقصم ظهر الأسرة.

حديثنا عن الترفق بالزوجة في عمومه تصحيح مسار في المعاشرة وتربية للبر في صفوف الأولاد والبنات. ونخصصه في هذا المقال بمائدة رمضان، لتكبد المرأة أعباء النهار والليل خدمة وتدبيرا وإطعاما لأسرتها. الصبر والرحمة والحنو الذي تتفانى في تقديمه الزوجات والأمهات هو بذل تستقيه من فيض عاطفتها الفطرية. لعمري تلك منحة ربانية تستوجب الشكر والتعريف بها، لأنها ترفع مقام المرأة الأنثى المسلمة لا أن تحطها أسفل سافلين كما يراد لها من لدن مخربي الأسرة. هو من صميم شرف اعوجاجها الضلعي والذي هو أصل “استقامتها، هو انحناء وحنو، هو عاطفة ورحمة” 4. لا غنى للأسرة والزوج عنها على الإطلاق وبه تكتمل وظائف حافظيتها.

الأسرة هي اللبنة المصغرة في صرح الأمة وهي البناء الرئيس والأساس، إن لم يكن على أسه التقوى فقد خاب وخسر وتعطلت بوصلته. في الأسرة يتجلى سمو الاجتماع والتلاحم حول القربات إلى الله بين الزوج والأبناء والزوجة. ويكون الخيط الناظم لدوام الود وسريان المحبة والبر بين الزوجين والأبناء حسن الخلق. فما رافق الصيام قربة أو طاعة إلا عظمت لأن الصوم لله عز وجل، مخصوص له سبحانه بالأجر والإثابة.

الترفق بالزوجة الصائمة وعدم حملها ما لا تطيق، في الخدمة، وتدبير البيت، والمعاش وغيره من الأعباء، هو من فنون التربية النبوية المنثورة بين شعب الإيمان المتعددة. فما يضير أفراد الأسرة أن تخفف عنها المسؤوليات وتشاركها، بل ويدفع الأب الزوج الأولاد ويحبب لهم المشاركة في أشغال البيت. تلك والله من القربات في هذه الشعيرة المباركة. على ذلك ينبذ الذهنية الذكورية المتغلبة على العادات المجتمعية والمتجذرة في البيوت المغربية خاصة، وهي إلزامية الأنثى زوجة وأما وأختا بالتجند الإجباري للخدمة، وتحمل صنوف المحاسبة والمعاتبة والتقريع على كل تفاصيل المائدة والإفطار والسحور على سبيل المثال. كانت النبوة وماتزال رحمة وإغاثة للمرأة من قفص الجاهلية الأخلاقية والدينية فلا يتحملن فوق ما لا يطقن. “رفقا بالقوارير” تحمل الإصر عنهن معالجة وتطبيبا وسلوكا إلى الله عز وجل.

ليعلم الزوج اللبيب والأبناء البررة الكرام أن دافع خدمة الأمهات أسرهن، وجبل التفاني الذي يبذلنه، لا يستطيعه أحد في أدق تفصيل له. هو تودد من الودود المؤمنة برسالتها ووظيفتها وحافظيتها، كرامة ربانية جبلت عليها. يزداد عطاؤها كلما رافقه الرفق وشكر الصنيع بالكلمة الطيبة الحانية من الزوج والأبناء، في منأى عن التذمر، ونكران الجهد والمعروف، والتعنيف المستمر.

لا غنى للأمة وقد مس الوهن أسرها عن التأسي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته أهله ووصيته الصحابة بالرفق والتلطف بالزوجات. هو الحريص على أن تكون أمته الشاهدة الشهيدة بالحق والإيمان يوم القيامة بين الأمم عبادة وأخلاقا. يقول المولى البر تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 129]. فلا تقوم هذه الأمة إلا بقيام المؤمنات بأمانة حافظيتهن ومداراة الرجال في قوامتهم.


[1] محمد يوسف الكاندهلوي. حياة الصحابة، ج2، ص409.
[2] نفسه، ص310.
[3] نفسه، ص409.
[4] عبد السلام ياسين، التنوير 2، ص174.