أقدم كلماتي هاته لكل أم وأب وابن وابنة، علها توقظ النائم، وتصحح المعوج، وتغير ما انحرف من مسار، وتشذب ما لا يليق وما شاب التربية من قاذورات الحضارة اللادينية الدخيلة. كلمات تخاطب العقول والقلوب، استقيتها من معين هدي القرآن؛ كلام ربنا جل وعلا، ففيه درر الأخلاق كامنة وفيه صلاح الأولين والآخرين، ولن تستيقظ الأمة – شيبها وشبابها، ذكرانها وإناثها – إلا بنداء رسالة القرآن؛ موقظ ومجدد الأفهام والأفكار، أسراره إلهية وودائعه غنية وفضائله لا تعد ولا تحصى، من تعلمه وعلمه وتدبره وعمل به في جميع مناحي حياته ذاق سعادة الدارين.
كلمات حركني لكتابتها الواقع المؤلم الموجع لشباب المسلمين، فوجدتني أبحث في كتاب الله عز وجل عن البلسم، واستوقفتني الآية 42 من سورة هود التي شيبت الرسول صلى الله عليه وسلم.
بين يدي سورة هود
هي سورة مكية تعرض معاني العقيدة والتوحيد وأمور الغيب والبعث والجزاء، وما يميزها أنها تحتوي زبدة قصص الأنبياء وما تعرضوا له من الإعراض والأذى والابتلاء العظيم، منهم أولو العزم كنوح عليه السلام، وهو من سنتخذه موضوع حديثنا.
إنما يسرد الله عز وجل القصص تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصطبر على ثقل أمانة الرسالة؛ رسالة التوحيد والدعوة إلى الله تعالى، ويتعلم من بعده، من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أصول التربية الربانية، النهج القويم. وفي قصة نوح مع ابنه أجل العبر التربوية لكل والد ومربّ ومرشد، راع يخشى الله فيما يرعاه، صدق مع الله واعتبر ابنه أو من يعوله عمله الصالح الذي يسلك به إلى الله تعالى.
“شيبتني هود وأخواتها”
اختلفت الروايات في هذا الحديث عن سورة هود، والأرجح ما ذكره الحافظ بن كثير عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قالَ أبو بَكْرٍ رضيَ اللَّهُ عنهُ: يا رسولَ اللَّهِ قد شِبتَ، قالَ: “شيَّبتني هودٌ، والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتَسَاءَلُونَ، وإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ” (صحيح الترمذي، 3297). وفي رواية: “هود وأخواتها”، قال الطبراني: الواقعة والحاقة وإذا الشمس كوّرت.
“فالفزع يورث الشيب” كما أورد الطبري في تفسير ابن كثير الجزء الثاني؛ فنفس محمد صلى الله عليه وسلم ذهلت بوعيد الله وصنوف ما أعده للجاحدين الكافرين بوعد الله الحق، المكذبين للرسالات والرسل. طابت نفسك يا سيدي يا رسول الله حيا وميتا. قال الله تعالى: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (المزمل، 17)، فإنما شاب الشباب من الفزع، ليت قومي وشباب قومي يعلمون رحمة الله قبل عذابه فيتبعون الرحمة المهداة للعالمين.
يقول ابن جرير الطبري متحدثا عن تعجيل عقوبة الله لتلك الأمم السابقة، وما واقعنا عن ذلك ببعيد: “وأما سورة هود فلما ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله تعالى، فأهل اليقين إذا تلوها تراءى على قلوبهم من ملكه وسلطانه ولحظاته البطش بأعدائه، فلو ماتوا من الفزع لحق بهم، ولكن الله تبارك وتعالى اسمه “اللطيف” يلطف بهم في تلك الأحايين حتى يقرؤوا كلامه، وأما أخواتها؛ فما أشبهها من السور… مثل الحاقة وسأل سائل وإذا الشمس كورت والقارعة، ففي تلاوتها ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس” (تفسير الطبري، ص 222، الجزء 15).
نتساءل أيها الرعاة المؤمنون: لماذا هذا الجيل ينفر من اسم الدين بحمولاته التعبدية والتشريعية؟ لماذا حتى الناشئون في بيئة متدينة تسوء أخلاقهم وسلوكياتهم بعد فترة البلوغ؟ هل يكمن الخلل في حبل التواصل المقطوع في بعض الأسر؟ أم في ثقافة التكنولوجيا الحديثة الجاهزة المدمرة التي تفصل العبادات عن الأخلاق وعن كل ما هو غيبي اتباعا للفصام النكد عبر قرون بين الدين والحياة العامة؟ أما أن هناك شبه انفصال بين عالم الكبار المربين وعالم الصغار الشباب؛ كل يرفض عالم الآخر؟… هي أسئلة شتى في عالم موار اختلط فيه الإسلام الموروث التقليدي بالعادات والمعتقدات الدخيلة الخاطئة والإلحادية، ثقافة المستكبر والمستبد الغالب، قتلت إعلاناته المبهرجة عروق التواصل بين الأطراف؛ كل يفر بعالمه من الآخر، فعقلية المنع والأمر عند الآباء تقابلها عقلية الرفض والتعنت عند الأبناء، فينقطع الحبل ويتذمر الكبار ويتمرد الصغار، وتضيع التربية ويتسنى لتربية الشارع المنحلة أن تتلقف ضحية متمردة تغرد خارج سرب الأسرة.
أمثلة من واقع الشباب
هي تمثلات شبابية رصدتُها أعرضها علني التمس موطن الخلل، مظاهرها قد تبدو في مواقف موجعة داخل البيت، وقد تبقى متخفية باهتة، تتجلى أمام أبواب المدرسة والثانوية والجامعة، وفي الأزقة الضيقة الفارغة من المارة، والأركان المظلمة البعيدة عن الأنظار، بل وهناك من يتعمد إظهارها أمام الملإ لإثبات وجوده حسب زعمه؛ شذوذ عن المألوف من الأعراف والأخلاق الإسلامية والسلوكيات والألفاظ والحركات والسكنات والهمس واللمس أمام الملإ، صداقات مائعة بين الذكور والإناث، التصاق بالأجساد وتشابك بالأيدي، تظهر باكرا في عمر الزهور، عمر ما يزال يحتسب على الطفولة، وقد تجد بينهم فتيات حاملات للباس الشرعي والحجاب والأخلاق منهن براء، يسبح الفتى والفتاة في عالم المتخيلات والأحلام، ينسجان على منوال ما رأياه في مسلسل ماجن وقد انمحى العالم من أمامهما، بل ما نسمع عنه أدهى وأمر في وقت أصبحت فيه الدعوة لـ”الحرية الجنسية” علنية، زد على ذلك السجائر والمخدرات.. وما خفي أعظم. والأهل إما في غفلة، حتى إذا ما تسرب الأمر لم يعالجوه بالتؤدة والحكمة المطلوبين فلا يزيد هذا الأولاد إلا تهورا وعنادا، وإما تجاهلوا الأمر وتعايشوا معه واعتبروه من موجبات اللحظة خصوصا عندما يخص الأمر راشدين، واكتفوا بالدعاء في أحسن الأحوال.
ولعل مما يزيد الطين بلة هوس البحث في النت، حتى أصبحت كلمة “كليك” الأكثر تداولا في جميع الأوساط، وخاصة لدى الشباب، عالم مليء بالإثارة يصادف في الغالب ضعف المعرفة الدينية وشح العاطفة وقلة التحصين العلمي.. فيعصف الجديد بذهن وعاطفة الشباب.
لهذا يكون لزاما على الوالدين أن لا يدخلا عالم الابن كالشرطي صاحب السلطة أو كالقاضي الفصل، بل أن يتفحصا ما بداخله ويعطياه الأمان والأمن، يعيشان معه لحظات في عالمه هو حتى يأمن جانبهما ويأنس بقربهما ويقويا الحبل الموصول بينهما وبينه، إذاك يسهل التوجيه والقياد والانقياد.
الأبوان قارب نجاة الابن، فلا تجعلاه بأسلوبكما يزهد فيه حتى لو علق في مصائب وغرق في خضم الحياة، أنتما الدالان على عصمته فلا عاصم اليوم له إلا رب العالمين، فمن يدله على ذي الجلال والإكرام إن لم تكونا اليد الحنون والقلب الرحيم، رحمة تمسح دمعته وتلبي حاجاته وترحم عقله غير الناضج فتنزلا من برجكما إلى عالمه. وأنتما في خلوتكما مع الله ادعوا الله له أن يحفظه وأولاد المسلمين من الزلل، حافظا على وقاركما ولينكما وسيرا بتؤدة إليه حيث هو؛ شاركاه وتواصلا معه فهو عملكما الصالح اللذان تؤجران عليه إلى جانب العبادة، امنحاه الوقت والجهد ولا تنشغلا عنه..
لجلسة مع ابني الحبيب تشذب ما أفسده الشارع والمدرسة والرفقاء.. تصلح برفق وحزم إن جد الأمر وعظم الخطب، أعظم عندي من نافلة قول أو عمل أو فرجة ممتعة للمباريات الكروية أو الأفلام أو طول ارتباط بـ”الواتساب” وغيره من بقية مواقع التواصل الرقمية، وهذا بلاء أصيبت به الأمهات والآباء على حد سواء. ابنك عملك الصالح فلا تفسده.
الحلقة المفقودة عند أغلب الأسر هو اعتماد نفس المنهج في التربية إبان بلوغ الابن، وهو خطأ جسيم يغفل التغيرات النفسية الناتجة عن التغيرات البيولوجية التي يعيشها في هذه المرحلة. ففيها يحدث ما يسمى علميا بالنمو العقلي؛ حيث يبدأ التفكير بجدية في قضايا العالم المحيطة به، يحاول التأكد من صحة معلوماته التي تلقاها عقله الصغير منذ طفولته المبكرة، فتبدأ قضايا الدين والتوحيد والغيب والتشريع.. ترن في أذنه بشكل مغاير، ويهيئ عقله النامي لعملية البحث والتساؤل، ويتكون لديه ما يسمى بالتفكير الديني: الخير، الشر، الحق، الباطل، العدل، الظلم..
على المستوى الانفعالي تزداد الحدة، وقد يصبح الابن مشوشا متأهبا للصراخ وردود الفعل السلبية، لا يحتمل النصح أو التعقيب.. فإن قابل الوالدان والمدرسون وكل من يحيط باليافع انفعالاته المتكررة بعصبية زائدة وانزعاج وغضب أدى هذا إصراره وتعنته. وليعلم الآباء أن التعنيف والدلال المفرط والحرمان والمنع والأمر والقمع، وسائل لا تأتي بنتائج حميدة.
وعلى الوالدين مراعاة الاختلاف بين أبنائهم، فلا يستنسخون وسائل التربية، بل يبحثون في ما يناسب كل واحد منهم من أساليب التربية.
طوفان شباب الأمة
فتنة موج عاتية تجتاح جذور الأمة؛ حين تستهدف الأطفال والشباب، فبعدما كان الخوف من الاستعمار الصليبي والصهيوني المباشر وما نفث من سموم في البلدان العربية الإسلامية، ازداد الوضع سوءا بعدما تتلمذ على أيديهم عدد من بني جلدتنا ففتحوا لهم أبوابا لم يكونوا ليدخلوها بالحرب؛ ترويج المخدرات والسموم القاتلة، والأزياء الفاجرة، والأفكار الإلحادية الهدامة، وفلسفات الجسد والجنس المبثوثة في الغناء والرقص والفن العفن، بل حتى المسرح أبو الفنون صار ماجنا خليعا، كل ذلك يغزو البيوت في عقرها بمجرد ضغطة على زر.. وأخبث من ذلك إقصاء لغة القرآن وتعاليمه من المحتويات الدراسية، وإفراغها من مواد التربية الإسلامية والدين، وتعزيز نصوص الفلسفة العلمانية المنكرة للدين والخلق..
إنه الطوفان، ولكي نستبصر بعض النور لا مناص لنا من الرجوع إلى خزائن العلوم والأفهام؛ كلام الله عز وجل الذي يربي بالقصة والمثل والعبرة، نقف في موضوعنا مع قصة النبي نوح عليه السلام مع قومه وابنه قبل الطوفان وبعده ونختار سورة هود نموذجا.
نوح الرسول
ذكرت قصة نوح مع قومه وابنه بعد تكذيب الكافرين من أهل مكة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم واتهاماتهم بافتراء القرآن وما جاء به من الحق ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه (سورة هود، الآية 25).
وخلاصة الدعوة إلى الله جاءت على لسانه عليه السلام أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم (الآية، 26)؛ دعوة إلى التوحيد عليها مدار سبل النجاة من الطوفان القادم، استمرت ألف سنة إلا خمسين عاما، وهو ما يدل على حجم التحمل والصبر والنصح والدعوة والموعظة.. قوبلت بالتكذيب والاستهزاء، بل اعتبر دعوته جدالا ومضيعة لأوقاتهم وتسفيها لأحلامهم قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. استعجلوا أمرهم وكذبوا بدعوة التوحيد وأنكروا وعيد الله للكافرين. محاجاة نوح كانت طويلة؛ وعدهم وأنذرهم بعقوبة الله فاستصغروا كلامه واتخذوه هزؤا ذلك أنهم لم يتذوقوا العقوبة..
ويأمر سبحانه وتعالى؛ مالك زمام أمور العباد كل عنده بمقدار حال الإنذار وحال العقوبة، ببناء السفينة، وهي إحدى وسائل النجاة التي أوصى بها الله نبيه؛ سفينة تصنع على عين الله فهي من أمر الله، لكن قوم نوح الكافرين المكذبين رأوها مجرد خشب مصنوع يَسخرون من صانعه وصنعه وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه (الآية 38)، وما علموا أنها ستكون الفيصل بين أهل الحق والباطل؛ من دخلها كان آمنا ومن هزئ بها كان من المغرقين. السخرية من الفكرة، من النور النابع من الحق، من القضية، من المعتقد والعقيدة، أمر قديم تتجدد أساليبه في كل عصر، وما بثها اليوم في المحتوى التعليمي وأدوات التواصل مع الشارع والمجتمع إلا مظاهر لتجذرها بهدف تربية جيل ضعيف المناعة أمام فيروسات وجراثيم حضارة مادية تنكر الله والآخرة..
ولما اقترب الموعد توعد النبي نوح قومه بالغرق حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (الآية 40).
وعيد شديد وتهديد أكيد؛ موعد من الله عز وجل لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله؛ أمر عظيم يفصل دقائقه رب العزة الجبار المتكبر سبحانه في قوله ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملته ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (سورة القمر).
إذا تتبعنا مجريات أحداث سورة هود سندرك أن التكذيب بالغيب والاستهانة بالعقوبة اللاحقة به هو أمر متكرر على الدوام، لذلك نجد في سورة القمر أن الله عز وجل في سياق عرضه سبحانه لهول المحشر يضرب مثال التكذيب بقوم نوح كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا (سورةالقمر، الآية 9).
التكذيب ديدن الأمم السابقة للأنبياء والمرسلين ولرسالة التوحيد وخاتمها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مستمر إلى يومنا هذا لكن بطرق أكثر تطورا وعصرنة، وبفلسفات وجدالات جديدة.
يعرض القرآن الكريم هول ما تعرض له قوم نوح قبيل الطوفان؛ مشهدان في قمة التصوير البلاغي القرآني: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر، التقى مطر السماء بماء البحر فعلا الموج كالجبال، يقول عنه ابن كثير: “لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب.. فتحت أبواب السماء بالماء غير سحاب”. ومشهد النجاة الرباني وحملناه على ذات ألواح ودسر، والدسر أضلاع السفينة التي يرتطم بها الموج إذا علا، تجري بأعيننا، ومن كان بعين الله وعلى عين الله فلن يخذل ولن يخيب، فقط كن موقنا مصدقا فكل شيء قدر في علم الغيب عنده سبحانه عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (الآية 12 من سورة القمر).
والرسالة الإلهية التي خاطبت محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته جاءت مختصرة في الآية وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ، بتشديد الدال وكسر الكاف المخففة؛ “فهل من يتذكر ويتعظ”، وتتكرر الآية خمس مرات في السورة، تلح على كل ذي لب أن يتذكر ويتعظ من أخبار من سبقوهم؛ هلكوا وعوقبوا جراء تمردهم على الله عز وجل وتكذيبهم للغيب والرسالات.. هي رسالة الوحي لأمة الإسلام، لكل راع مسؤول عن رعيته أن لا يؤل جهدا في بناء النشء بالتذكير القرآني والرحمة النبوية من غير كلل ولا إهمال، فأهل الباطل لا يملون من تمرير مشاريعهم التخريبية فكيف يتقاعس أهل الحق والله معهم؟
رحمة الأبوة
حين جاء أمر الله بالركوب في السفينة تفقد النبي ابنه: “ونادى نوح ابنه”، وتذكر التفاسير أنه كان كافرا. دعوة أخيرة لركوب سفينة النجاة من وعيد الله الحق، وكان الولد في معزل، عزله كفره عن الإيمان واتباع دعوة والده النبي الرسول، دعاه دعوة رحيمة ترفق به وترجعه إلى الإيمان وتنقذه من غياهب وعيد الله عز وجل وما أعده من عقاب لمن كذب بالرسالات والتوحيد، من واجب الآباء أن لا يتركوا أولادهم في معزل عن النور، أشعوا نور الرحمة عله يجد منفذا إلى قلوب فلذات أكبادكم، ولا تيأسوا فنوح عليه السلام لم ييأس رغم كفر ابنه، وهكذا هم الأنبياء صلوات ربي عليهم أجمعين حاملو الرسالة؛ إبراهيم واستغفاره لأبيه الكافر “آزر”، ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب رغم شركه، ونوح عليه السلام كذلك استمر يدعو ابنه للإيمان إلى آخر اللحظات قبيل الطوفان “يا بني اركب معنا”، فابق أيها الوالد الحاني الحنون على معيتك وصحبتك لولدك فلربما تستيقظ مكامن الإيمان والنور في تلك النبتة فتينع وتكبر وتزهر.
ويلح سيدنا نوح، الوالد الرحيم، في طلبه إلى الله: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (الآية 45 من سورة هود)؛ سؤال ولهفة أب على ابنه الذي غرق، يقول ابن كثير عن هذا السؤال: “سؤال استعلام وكشف”؛ يستعلم عن حال ابنه هل نجا أم كان من المغرقين، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ (الآية 46).
جواب الله الفصل: لا ينجو من لم يؤمن ويتبع نور الهدى ويدكر بالقرآن وبمنهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما ينجي الله من آمن وصاحب نوحا في السفينة، إذ لا نجاة لمن ضل عن الصراط وكذب بالرسالة، وإنه عمل “غير صالح”؛ ما أصعب أن ترى ابنك وكل جهودك التي بذلتها في رعايته منذ صغره إلى كبره عملا غير متقبل دنيا وآخرة، شرط العمل أن تصاحبه في الله وتدله على الله وتنير بصيرته ولا تضجر ولا تتذمر وتضرع إليه سجودا في المحراب وتسلم لأمر الله بعد الأخذ بأسباب التربية، إذ ليس عليك هداهم ولكنك أمرت بالمصاحبة والتبليغ حقا وصدقا وتوكلا لا تواكلا.
علموا أولادكم الإيمان بالغيب
ليتعلموا الغيب لا بد أن يوقنوا أن الله أكبر وأعز وأقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه سبحانه بيده مفاتيح خزائن السماوات والأرض مهما اتخذت من الأسباب الحسية والمادية، فإذا انهدم تعظيم قدرة الله على قدرة المخلوق سقطوا في الهاوية.
قال ابن نوح سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء؛ جهالة وجهل بخطورة الموقف وكل الأسباب تحدث عن أمر عظيم سيقع، وأكثر من ذلك، المتحدث عن أمر الله موجود وهو والده نوح عليه السلام فلا مجال للمغامرة حين يعم الخطب وتجتمع الأسباب ويحتدم الخطر، لا مجال لكذب الآباء على الأبناء أو مراوغتهم، فتحذيرهم صادق، لكن الأبناء من طبيعتهم في هذه المواقف مواجهة الأمر بالتعنت والتمرد والعناد العنيف حتى ولو أبصروا الخطر محدقا بهم.
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ؛ يقول ابن كثير: “اعتقد بجهله أن الطوفان لن يبلغ إلى رؤوس الجبال، وأنه لو تعلق برأس الجبل لنجاه”.
جهل لونه خيال الشاب الغر خداعا مضللا، وواقع الحقيقة ينبئ أن كيف لمخلوق أن يفر من أقدار الله إلى مخلوق مثله؟ والجبل من أعظم مخلوقات الله، وهو من رواسي الأرض، يشدها ويثبتها بإذنه. كيف لمخلوق مهما عظم أن ينجيك من وعيد الله والطوفان المأمور من السماء؛ غيب مقدر لا يدفع إلا بالإيمان.
الجبل مخلوق من مخلوقات الله؛ قممه العالية بيد الله، إن شاء نسفه نسفا فكيف بإغراق البشر، وهذا البشري بضعف إيمانه بالغيب يلجا إلى مخلوق مثله يحتمي به من أمر الله الواقع حقا وعدلا، لسان الإيمان واليقين يجيب هذه الجهالة: لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ؛ مقالة أجراها الله سبحانه على لسان سيدنا نوح الوالد الرسول الداعي إلى الحق بإذنه.
أي بني؛ لا تعتد بنفسك وجهدك وقوتك وعقلك، استمد القوة من صاحب الحول والقوة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أي بني إنما أنت مخلوق وأنا مخلوق، وكلانا بين يدي الله عز وجل، وإني لا أغني عنك من الله شيئا. رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: وأنذر عشيرتك الأقربين نادى في عشيرته بأسمائهم أن اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف … يا عباس بن عبد المطلب … حتى وصل إلى ابنته فاطمة الزهراء قال: “يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا” (الحديث رواه البخاري (2733) و مسلم (206)).
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: يوم القيامة لا يغني امرؤ عن آخر شيئا إلا ما نفع من قول وفعل ودعوة إلى الله عز وجل سرت بينهما وصحبة لله أخلصت له.
أيها الآباء؛ لا تحصروا صحبتكم في الغير وتفرطوا وتهملوا في صحبة أبنائكم، لا تعلمون عنهم إلا ما أكلوا ولبسوا ودرسوا، فلهم عليكم حق الصحبة والمصاحبة والاحتضان الحاني الرؤوف، كما تخشى على آخرتك من التفريط ارحم وقوفهم بين يدي الله واعمل معهم لذلك اليوم، يقول ابن الجوزي: من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر.