عندما يوجه وزير الخارجية الصهيوني رسالة إلى وزراء خارجية العالم مفادها: “اغتلنا السنوار”، وعندما يبشر وزير الدفاع الأمريكي زعماء النيتو NATO بقتل السنوار، ثم عندما يخرج قادة العالم الغربي للتعبير عن فرحهم بقتل الشهيد يحيى السنوار ويعتبرون هذا القتل استعادة لتأمين وجود “إسرائيل”، فاعلم أنك أمام قائد استثنائي في تاريخ الحركات التحررية. فبعد قضائه 22 سنة في سجون الاحتلال الصهيوني، وبعد عملية استئصال لورم سرطاني داخل رأسه، يخرج هذا الرجل ليصبح بعد سنوات رئيس حركة حماس. هكذا، وفي لحظة حصار مطبق على قطاع غزة. وخلال رئاسته القصيرة استطاع أن يقوي جهاز الأمن، ويصفي العديد من شبكات التجسس ممهدا لمشروع طوفان الأقصى.
غير أن ما يلفت النظر في شخصية يحيى السنوار، أنه كَسَّرَ كل البروتوكولات التي ورثها القادة السياسيون وقادة الحركات التحررية تاريخيا، فكان الرجل حريصا على تجنب الظهور المبتذل، ولعل هذا التمشي لا يتبناه إلا شخص يغلبه الطابع العملي على الطابع الاستعراضي. لقد كان يحيى السنوار ترجمة عملية لقوله تعالى “أشداء على الكفار رحماء بينهم”، ويتجلى هذا الأمر حين أبدى كامل الاستعداد لتقديم تنازلات سياسية مقابل تحقيق وحدة وطنية مع حركة فتح. في المقابل كان الرجل صارما في تعامله مع الكيان الصهيوني، وكان يؤمن جازما أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ومع كل الإنجازات التي قدمها يحيى السنوار بعد خروجه من سجن الاحتلال وعلى رأسها إعادة بناء الجهاز الأمني، ستبقى معركة طوفان الأقصى المختبر الحقيقي الذي كشف لنا تفاصيل هذه الشخصية القيادية، شخصية نجحت في إقناع قادة الحركة بضرورة الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم والاقتحام، أو بكلمات أخر، الانتقال من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل. في هذا السياق، كانت كل الظروف الداخلية والخارجية تسير ضد هذا المشروع، لكن فكر يحيى السنوار الاستراتيجي وعلو همته وعزيمته الجهادية، وعدم اكتراثه بالحسابات البراغماتية جعله يمشي قدما صوب معركة القرن وهي معركة طوفان الأقصى التي شكلت لحظة فارقة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني؛ نقول فارقة، لأنها كشفت ضعف الكيان، وفضحت المنتظم الدولي، وعَرَّت الأنظمة العربية.
إن ما حققه السنوار من إنجازات خلال سنة من معركة طوفان الأقصى، لا يمكن حصره فقط في مواجهة خامس أقوى جيش في المنطقة والرابع عشر عالميا والمتمثل في جيش الكيان، بل يتعداه إلى مواجهة الغرب الإمبريالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها التقليديين. وعليه فقد أثبت السنوار من خلال هذه المواجهة الواسعة مع الاستكبار العالمي ما يلي:
– التفوق الأمني: تحدى السنوار كل الاستخبارات العالمية التي تشارك في حصار غزة جوا وبرا وبحرا، وفاجأهم بتخطيط محكم أسقط مُسَلَّمَة تفوق العقل الغربي. ناهيك أن السنوار جفف منابع الجاسوسية، ونجح في حجب مواقع الأسرى ومواقع المقاومة، في رقعة جغرافية حسب معايير الحرب تعد جد ضيقة ويمكن لأي جيش نظامي أن يتحكم فيها. علاوة على ذلك، أن الرجل كان ينتقل فوق الأرض ويواجه العدو من خان يونس إلى رفح دون أن تتمكن الاستخبارات العسكرية للعدو أن ترصده.
– التفوق العسكري: تمكن السنوار من تطوير الصناعات العسكرية الذاتية وتخصيص أنفاق لذلك، ما جعل المقاومة رغم الحصار وامتداد الحرب لأكثر من سنة لم تشكُ المقاومة من قلة السلاح. إضافة لذلك، كان السلاح المعد لهذه المعركة جد فعال، بحيث على بساطته التقليدية كان يعرف ما عند العدو من أسلحة فأعد ما يناسب فتكها وتدميرها. والأقوى من كل ذلك أن السنوار أكد لكل أحرار العالم أن إرادة المقاومة لا تعترف بجبروت الظالم والمحتل، وأن السنوار لما أعطى الأمر بكسر الأسلاك الشائكة في غلاف غزة كان يرى أن المقاومين أقوى من الدبابات والطائرات والجيش الجرار.
– التفوق التنظيمي: لقد أكد مشهد استشهاد السنوار أن الرجل كان مشغولا بالميدان، وأن استمرار المقاومة بتلك السلاسة، يؤكد أن هذا القائد كان يتقن فن التفويض، وهذا ما أعطى كل القيادات العسكرية روح المبادرة رغم صعوبة التواصل بين كل الكتائب والألوية. فعادة عندما يكون القائد مستحوذا على صنع القرار، فإنه يصنع قطيعا ينتظر دائما توجيه القائد المغوار. غير أن استمرار المقاومة في حسن تدبير وإدارة المعركة بإيقاع منسجم يُنِمُّ أن قيادة السنوار اتسمت بالتفويض والمرونة إلى أبعد الحدود، وهذا ما ينبئ بأن حماس لن تتأثر عمليا في ميدان المعركة وأنها ستستمر، بل إن مشهد السنوار وهو يستشهد ممتشطا سلاحه سيكون وقودا للمقاومة، ودافعا للسير بثبات على درب المقاومة الذي رسمه الشهيد السنوار وختم حياته عليه، إما النصر وإما الشهادة.
إننا إذن، أمام قائد استثنائي، وأمام تثبيت نموذج جديد في نظام القيادة السياسية؛ فلئن كان ݣيفارا يردد “القائد آخر من ينام وآخر من يشبع”، فإن مشهد السنوار شهيدا يقول بلسان الحال: “القائد أول من يقاتل، وآخر من ينزل سلاحه”. لقد كان الرجل منخرطا في القتال وليس له وقت للتفاوض الفارغ مع عدو يتقن تاريخيا تمطيط المفاوضات ومسخها. لقد رسم السنوار لهذا الجيل وللأجيال القادمة النموذج الأعلى للقائد السياسي، ومَكَّنَها من المعايير السليمة لتحديد القائد السياسي اللائق من القائد السياسي المزيف، وأقلُّه أن يكون للقائد السياسي استعداد للموت في سبيل الشعب وفي سبيل الوطن ومن ثم في سبيل الله، وليس القائد السياسي المستعد لقتل ثلثي الشعب ليبقى هو جالسا على كرسي الحكم؛ صحيح أننا رزئنا في قيادة فريدة ومنفردة، لكن عزاءنا أنه سيبقى نموذجا تحتذي به الأجيال في استشراف الحكم السياسي الراشد، الذي يكون فيه القائد السياسي خادما لا مخدوما، وتكون فيه الدولةُ دولةَ مقاومة للمشروع الصهيوني العالمي، لا دولة مقاولة في سوق نخاسته. لا ينبغي اعتبار أن السنوار كان يقاتل من أجل الفلسطينيين فقط، بل كان يوقف الزحف الصهيوني على المنطقة، ويدعو بكل لغات الحال الشعوب العربية إلى ضرورة التخلص من الحكام المقاولين ومن دولة المقاولة التي تسند كيانا منذ 1948، وإذ لولاها لما عَمَّرَ هذا الكيان المحتل عاما كاملا.
إلى ذلك الحين، عزاؤنا واحد في الشهيد يحيى السنوار، وإنا على دربه لسائرون حتى تحرير الأوطان من خدام الصهيونية والزحف في طوفان عارم لإكمال تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر، لنؤكد أن السنوار وغيره من قادة المقاومة هم أعمدة لمشروع تحرري قد انتصب وواجبنا بعدهم أن نكمل إنجاز هذا المشروع الذي قام على دماء وأرواح الشهداء.