ليس عبثا أن قص علينا القرآن الكريم قصص الأنبياء والأمم السالفة، وإنما كان ذلك للعبرة؛ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (يوسف: 110)؛ ذلك أن للقصص أثرا بالغا في النفوس، تعوض عن الكثير من الكلام، فهي واقع حي مماثل يستعرضه علينا القرآن وكأننا نشاهده.
وقصة سيدنا يوسف عليه السلام مليئة بالعبر والحكم والعظات، كما هو الشأن للقرآن الكريم كله؛ ذاك الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي فوائده. ولا يسع المقام هنا لذكر عبر القصة كلها، فذلك يطول، وإنما سنكتفي بمقطع تأويل يوسف عليه السلام لرؤيا صاحبيه في السجن، والمكون من الآيات (36-41) نكتشف من خلالها منهجَ الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحسنَ استثمار الموقف.
يخبرنا القرآن الكريم أن فتيين دخلا السجن مع يوسف عليه السلام، ولجآ إليه لتأويل ما رأياه من رؤى. وهنا نسأل: ما الذي دفعهما إلى طلب التأويل من سيدنا يوسف عليه والسلام؟
إن الدافع وراء سؤال يوسف عليه السلام هو ما رأوه فيه من سمت وصلاح وخلق عظيم حتى استكانا إليه واطمأنا، نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؛ ذلك أن أمر تعبير الرؤيا على مر التاريخ البشري والأقوام لم يعطَ لكل الناس، وإنما هو وهب خاص. وهنا نستخلص أول فائدة، وهي أن حال سيدنا يوسف كان دالا، إذ الإحسان فعل وحال وليس كلاما ومواعظ.
لكن، بعد طلب التأويل لم يجب يوسف عليه السلام مباشرة وبطريقة مسترسلة، وإنما نبّه إلى أمور:
أولها: تأويل الرؤيا ليس شيئا من كسبه إنما هو تعليم له من الله سبحانه، ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي، وهذا منتهى تجرد المحسنين من كل نعمة ظاهرة عليهم بردها إلى مولاها سبحانه وتعالى. وهذا فضل من الله ممتد عبر الزمان يصطفي له من يشاء.
ثانيها: تذكيرهم بالأصل، وهو توحيد الله عز وجل: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّـهِ مِن شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّـهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّـهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. وهنا يحكي يوسف عليه السلام عن واقعه، واقع لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، بينما هو على دين آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، مبينا أن الأصل هو أن يؤمن الإنسان ولا يشرك بالله شيئا. وكل هذا من فضل الله علينا، يستوجب الشكر. ونلاحظ هنا أن يوسف عليه السلام يؤكد فضل الله عليه، وهذه المرة فضل الإيمان والتوحيد. فهل هذا خروج عن السياق وابتعاد عن المطلوب؟
إن السائل عندما يتوجه بسؤال إلى شخص ما، مؤهل للإجابة عنه بما يمتلكه من مقومات، فإنه غالبا ما يكون متلهفا لسماع الإجابة، وكل جوارحه مهيأة لذلك، فما بالك لو كان الأمر متعلقا يدنا بمغيبات؟ هنا أحسن يوسف عليه السلام استثمار الموقف فذكر بالله وبضرورة توحيده.
ثالثا: تنبيه سيدنا يوسف صاحبيه إلى عدم الاغترار بالأكثرية حتى لا ينساقا مع ما هم عليه؛ إذ الحق يعرف بالحق ذاته، وليس بالعدد، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
رابعا: بعد هذا التذكير عاد يوسف عليه السلام إلى التأويل ليخبر كل واحد بدلالة رؤياه، ويمثل التعبيرَ قوله تعالي: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ۖ وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ ۚ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ. ونلاحظ هنا أن تأويل الرؤيا لصاحبيه لم يتطلب منه كلاما كثيرا، وإنما فقط كلمات معدودة، بينما كان النصيب الأوفر في خطابه للقضية المصيرية، وهي توحيد الله تعالى.
وخلاصة القول: لقد توجه الصاحبان إلى يوسف عليه السلام بطلب تأويل الرؤيا لما رأوا فيه من أهلية لذلك، فاستثمر هذا ليبلغ كلمة الله ويدعوهم إلى توحيده وعبادته. وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يبرع كل واحد منهم في تخصصه ليبلغ كلمة الله ويدعو إلى توحيده.