ألقت برأسها المثقل من نافذة بيتها الصغير علها تتخفف من زوبعة الأخبار المتناثرة هنا وهناك عبر المواقع الرقمية عن إصابات ووفيات فيروس “كوفيد 19” المستجد، استنشقت هواء الأصيل وهي تنظر يمنة ويسرة، أصبحت المدينة والحي الذي تسكن فيه فارغا إلا من بضع سيارات ومارة يعدون على رؤوس الأصابع كل ساعة وأخرى، وقفت لحظة وكأن ذاكرتها توقفت، آه ربما الهواء النقي الذي امتصته شعبها التنفسية يستحق أن يقال عنه هواء عليل، يحمل رائحة المطر فالجو ربيعي والغيوم تملأ الأجواء، تغيرت الأنفاس وعطر الجو، غابت كل الملوثات البيئية والبشرية بسبب الحظر الصحي ومنع التجول إلا لضرورة قصوى.
رجعت بذاكرتها.. ورتبت الزمان الذي مضى قبل أيام معدودة؛ هنا كانت نسوة تحت نافذة البيت ثرثرتهن تصم الآذان، يجتمعن بعد العصر إلى مغيب الشمس في حديقة الحي الصغيرة، حدثتها نفسها قائلة: “الله يغفر ليهم”.. كم تفكهوا بغيبة الناس، تلاشت الضحكات بشرورها وخيرها، وانبرت الأجسام إلى زوايا المنازل تسأل الله السلامة والعافية، تخاف من الملامسة واللقاء، بعدما كان الشوق لتمضية ساعات طوال في اللغو والترويح عن النفس بالغث والسمين منتهى الأماني.
تابعت ذاكرتها المرور عبر زمن ليس بالبعيد، تراءى لها وكأنه عهود قديمة، ترى لماذا طال الزمن في الذاكرة بين أمس ضاحك بث نشاطه الدسم في أرجاء الكون، صخب وجلبة في الأزقة والشوارع، تبصر مقلتاك ما يؤذيك وما يعجبك، وفي خضم أيام معدودة صارت مجرد نوستالجيا.
سبحان الحي الذي لا يموت، حكمتك بالغة، إلهي أنت علام الغيوب، لو أفشيت بعض غيبك لاستكثر الناس من الخير، لكن هي سنتك الحكيمة سنة الابتلاء، وزادها قدر البلاء وطأة لم تتحمله هشاشة البشرية، قالوا في زمن كورونا تعوزها المناعة الصحية والأولى هي الروحية، فمتى استقبل القلب البلاء بالرضى والسكينة ارتفعت كلتا المناعتين…
أطلقت العنان لناظريها في زقاق الحي، بالأمس كان المقهى المقابل يضج موسيقى صاخبة وأنواع الجلساء ودخان السجائر يتعالى، والنادلة المبالغة في تبرجها تسير الهوينا بتغنج ملفت بين الطاولات والكراسي وتجيب طلبات الزبائن. ما زالت تتذكر المسجد في آخر الشارع؛ حين كان يؤذن المؤذن لصلاة الجمعة، فلا تنهض إلا ثلة يسيرة استحياء وامتثالا للنداء، وبعض من علا الشيب رؤوسهم وذقونهم لا يزالون قابعين في أماكنهم لا يبرحونها، وظهورهم محنية على هواتفهم وحواسيبهم النقالة، لا يُنهض أجسامهم إلا الجوع بعد انقضاء الصلاة.. فينتشرون من غير قضاء للصلاة ولا ذكر، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض؛ الله أكبر كبيرا.. أغلق المسجد، ولا يزال نداء حزين يؤزها أزا “صلوا في بيوتكم”، فلا جمعة ولا جماعة، لله الأمر من قبل ومن بعد، إلا بقية من نداء “الله أكبر” يعلو هامات المآذن حزينا كسيرا، يحن إلى أرواح وقفت خاشعة بالمحراب قبل الوباء.
أما المقهى المسكين في حداد أسدل أبوابه ونكس واقيات شرفاته، نظرت إليه قائلة: وا حرّ قلباه!! ضعت وضيعت، والجمعة والجماعة شاهدات ليوم لاريب فيه، ألا يشتاق من ضيع الصلاة جماعة وجمعة إلى لحظة ولوج إلى بيت الله والقلوب ترجف خوفا وفزعا من هول الجائحة؟ هل من توبة؟؟ لربما نطقت الكراسي وقالت: أحرقوا خشبي وأبدلوني بسجاد للتوابين عل الله يغفر ويعفو… ليبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
أوصد الله بحكمته الخفية في قدره المعلوم المساجد وحتى الملهيات عن العبادة مثل المقاهي، ذاك غيب عنده سبحانه.. في علمهم البشري الصغير خوفا واحترازا من فيروس فتاك، وفي علم الله الغيبي ابتلاء، فلاريب فنحن في الدنيا وهي دار بلاء لا راحة؛ يبتلي القلوب قبل الأجساد، هجرت بيوت الله حضورا للصلاة ونشرا لأخلاق الصلاة بعد انقضائها، فأثر العبادة أبقى وأشمل ليعم الخير البقاع.. كيف أكتفي بإنقاذ نفسي من خزي الآخرة وفرد من الأمة يعمّر كرسي المقهى، ينتشي بأرجيلته بأحدث النكهات.. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.
لم نستكمل الإيمان بعد لعمارة بيوت الله، فكم من واقف في المحراب مانع للزكاة والصدقات، وآكل لأموال اليتامى وهاضم للحقوق و.. و.. والقائمة لا تنتهي. شكرا كورونا، شكرا لأنك بصرتنا بعيوب إيماننا، “صلوا في بيوتكم يرحمكم الله” ترن في الآذان مبكية للقلوب المشاءة لبيوت الله في ظلمة الليل ترجو الله واليوم الآخر، مخيفة للذين يصلون وقلوبهم لاهية عن الجمعة والجماعة، صفعات متتالية من هذا البلاء إبان الحجر الصحي.
أطلت الجارة وهي ممسكة بيد زوجها من شرفة منزلها الجميل، يمعنان النظر في السماء، ارتاحت أيديهما في هذا الجو الربيعي، فرصة لم يحظيا بها، فالعمل خارج البيت قد سرق أجمل اللحظات وأصدقها، صفعة كورونية بامتياز بمقياس فيروسي متطور، أبدل البيوت التي عانت من فراغ من أرواح ساكنيها ساعات كثيرة، الأب أو الوالدين في العمل والأولاد في المدرسة أو الجامعة، بيوت تستقبل أجسادا دون أرواح، سحقا للمدنية الحديثة وسرعة الوتيرة في أنشطة الإنسان المسلم، نسي أن بيته محراب أيضا، ومسجد إن نظف وطهر وطهرت قلوب ساكنيه لتحسن أخلاقهم، يملأ ذكرا وقرآنا وصلاة فرادى وجماعات، هجرت البيوت وأضحت خربة من الدفء العائلي والتواصل والذكر الطيب، أصبحت عموما للاستهلاك والنوم.
حركت رأسها علها تخفف من أثقاله وتنهدت، الحمد لله على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار، إن من البلاء والابتلاء لعبرة لأولي الألباب. أحست بيد ابنتها الصغيرة تشدها بقوة وهي تصرخ فزعة: أمي أغلقي النافذة، هيا!! كي لا تصيبك عدوى كورونا، ضحكت بعمق خفي ممتزج بدمع رقراق في مقلتها، كورونا لا يصل عبر الهواء ولكن من الأشخاص عند الاقتراب.. فزعت البنت وهي تمسح دمع والدتها بيدها الحانية، لكن.. أريد تقبيلك ماما الحبيبة، والمرض؟ وكورونا؟ تبسمت الأم وعانقت ابنتها بشدة وقبلتها، لا تخافي نحن في البيت ملتزمون بالحجر الصحي، لا تخافي أمك الحبيبة بجانبك..
نادى المؤذن لصلاة المغرب، أغلقت الأم النافذة، وأفطرت على بضع تمرات وماء، ودعت بخشوع: اللهم إنها ضاقت على العالمين فوسعها يا واسع يا عليم، وارزقنا توبة قبل الممات.
حتى إذا ضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.