مقدمة:
من أصول التربية الإيمانية الحقة بناءُ الفرد المؤمن القوي الأمين العامل المجد المجتهد المجدد، الذي يعمل ليومه وغده وفق مشروع إيماني متناسق يتأسس على عمق عقدي وفعل تعبدي متكاملين، يكون فيه المؤمن في جهاد مستمر يرسي فيه عزائم الحاضر ويؤسس فيه لدعائم المستقبل، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، لقول الله تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا 1 وابتغاء بناء مجتمع فضل وأمة خير يتحقق فيها قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 2 ولن يتسنى ذلك إلا بنهج المؤمن لبرنامج يتسق فيه عمل يومه وليلته.
عمر المؤمن يوم وليلة:
عن عبد الله عن بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: “لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه وعن شبابه فيمَ أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وماذا عمل فيم علم (يسأل عن علمه)”.
والسبيل القويم لبلوغ كل ما سبق، اغتنام الوقت وترشيده وحسن تدبيره واستثماره. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”.
يقول الإمام المجدد رحمه الله في منظومته الوعظية:
فاغتنم فضل ليلة ونهار وكأن مضجع الفراق رأيته 3
وقد حذا رحمه الله في منظومته حذو الإمام البخاري في بيتين شهرين نسبهما إليه أبو العباس المقري:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح مات قبل سقيــــــم ذهبت نفسه النفيسة فلتــــه
يوم المؤمن وليلته؛ الغاية والمقصد:
تتعدد غايات ومقاصد يوم المؤمن وليلته في علاقة المؤمن بربه وغيره في أبعادها الإيمانية والعقدية والتعبدية وتجلياتها القلبية والسلوكية، ومن أهم هذه الغايات والمقاصد:
1 ـ “يوم المؤمن وليلته” مشروع للارتقاء في مدارج الإحسان:
من شأن انتظام عمل المؤمن في يومه وليلته ارتقاؤه في مدارج الإيمان والإحسان، فهو في وصال مستمر بربه فيعمل لإرضائه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. ومن تجليات ذلك ارتقاؤه في علاقاته بربه وبالناس والأشياء، “علاقته بربه تكون إحسانية إن حافظ على ذكره، لا يفتر عن مراقبته وخشيته ورجائه ودعائه ومناجاته. بهذا الإحسان في عبادة ربه يطيب قلبه وتجمل أخلاقه وتصلح نواياه وأفعاله فيكون للخلق رحمة يعم نفعه العالم الأقرب فالأقرب، ونفعه للمجتمع وللناس كافة لا يتوقف على حسن النية وجمال القصد والإسراع إلى الفعل فقط، بل يتوقف أيضا، على خبرته ومهارته وقدرته على إتقان ما هو موكول إليه من أعمال.” 4
2 ـ تحقيق التوازن في تدبير الوقت والأعمال والسلوكيات حيث “يجب أن تكون في حياته اليومية معالم لتكون قدمه راسخة في زمن العبادة والجهاد لا في زمن العادة واللهو. هنالك أوقات المهنة والأسرة والمدرسة والشغل، فيجب ألا يمنع توقيت زمن الوظائف الدنيوية عن إقامة الصلاة في وقتها بأي ثمن…” 5، فتنجمع بذلك أعمال المؤمن في تكامل وانسجام مهما اختلفت مقاصدها، وتتخذ بعدا تعبديا يحقق فيه الأركان الثلاثة المطلوبة في شخصية المؤمن القوي الأمين: الإسلام والإيمان والإحسان، في حصن حصين وسد منيع من الوقوع في براثن ظلمات الافتتان من خلال القدرة على الحفاظ على الفطرة ووقايتها بالإحياء المستمر لجذوة الإيمان وتجديدها.
ويمكن تلخيص هذا المقصد ببرنامج عملي خطه الإمام المرشد رحمه الله في قوله: “العضو النصير هو القادر على رصد صفوة أوقاته خارج المهنة للدعوة. فوقتٌ يومي لأذكاره وتلاوته وحفظه، ووقت ليلي لتهجده وتذللـه بين يدي الله عز وجل، وثلاث لقاءات ما أمكن في الأسبوع لمجالس أسرته ونشاطاتها، وساعة في كل يوم ما أمكن لزيارة من يرجو استجابتهم للدعوة، وحده أو مع بعض إخوته، ممن يزيدون الدعوة قيمة، ووقت في الأسبوع للرياضة، ووقت شهري للمعسكر والسياحة، ووقت في كل حين لسائر أعمال البر الموصوفة في شعب الإيمان.” 6
3 – “الانتقال من ذكر التربية إلى تربية الذكر، والخروج من زمن الغفلة والعادة إلى زمن اليقظة والعبادة” 7 والتوفيق بين الواجبات، إذ يقول أحد العارفين بالله: “من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثلـــه، أو حمد حصلــه، أو خير أسســـه، أو علـم اقتبســــــــه، فقد عق يومه وظلم نفسه”. فيحافظ المؤمن على العمل ويواظب عليه لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، ويصدق ويتحرى الصدق في عمله تأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع تحري الثبات فيه كما يقول أبو حنيفة النعمان: “لا نبات بلا ثبات”.
4 ـ يوم المؤمن وليلته منظومة حياة، يتدرج فيها المؤمن في إيقاع متوازن من مرحلة التخلي من خلال مجاهدة النفس والشيطان، والابتعاد عن كل ما ينهى عنه اللـه ورسوله ليتسنى الانتقال إلى مرحلة التحلي عبر تمثل الواجبات والالتزام بالأوامر في الأقوال والأفعال والمواقف والسلوكات والعلاقات والعبادات، فيتم الوصول بفضل الله ورحمته إلى مرحلة التجلي حيث يصبح المؤمن جديرا بأن يكون فردا فعالا في خير أمة أخرجت للناس؛ بحمل الأمانة التي كلفه الله إياها وتبوؤ المكانة التي ارتضاها له والقيام بالوظيفة التي خلقه من أجلها.
5 ـ “يوم المؤمن وليلته ” مقياس سلوكي لقياس اتصال المؤمن بربه ومكانته عنده:
قمين بالذكر هنا أن نستحضر سؤالا إشكاليا عميقا يطرحه الأستاذ محمد عبادي: “ماذا يريد الله مني وأين أنا من ذاك المطلوب؟” 8 حيث نتساءل عن مقياس نقيس به سلوكنا إلى الله؛ فالذكر مثلا مؤشر دال على الاتصال القلبي بالله؛ يقول أهل الله: ذكر الله طعام الروح، والثناء عليه تعالى ترابها، والحياء منه لباسها، وما تنعم المتنعمون بمثل أنسه، ولا تلذذ المتلذذون بمثل ذكره. ومن جهة أخرى، فإن أفعالنا وأعمالنا في علاقتها بالله وسائر المخلوقات مؤشرات دالة على الاتصال السلوكي بالله تعالى وينبغي أن تقاس بما يريد الله من العبد لا ما يريد به؛ فكلما توافقت أعمال المؤمن القلبية والسلوكية والمسؤوليةَ التي أنيطت به والوظيفةَ التي خلق من أجلها، كلما تبوأ عند الله ما يقابل ذلك من منازل السالكين الواصلين؛ خصوصا إذا اقترن عمله بتحري الإخلاص والصدق وكان طاعة خالصة وامتثالا صادقا لأمر الله تعالى في سره وعلنه.
6 ـ يوم المؤمن وليلته مؤسسة لبناء الإنسان:
كل عمل المؤمن في يومه وليلته مستلهَم من رسالة الإسلام ورسالة الإسلام البناء، وكانت دار الأرقم أول مؤسسة تمكن الرسول الأعظم من خلالها بناء الإنسان بناء متكاملا، بناء عقديا وإيمانيا سليما وبناء تعبديا قويما؛ وبناء الإنسان مقدم على بناء العمران، فقد كرمه الإسلام وأخرجه من الظلمات إلى النور يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا 9، وجعله بانيا لمجتمعه وأمته بالدعوة إلى القيم والأخلاق الفاضلة والسلم والتعايش قول عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ 10، وبانيا لحضارته والمساهمة في تطورها وتقدمها بالعلم والعمل والإنتاج والتفكر والتبصر والعطاء والبذل والاجتهاد. ففي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»
ولتقريب العديد من السالكين السائلين من ملامح برنامج المؤمن في يومه وليلته، نختتم ببعض المقتضيات السلوكية التي يبنى عليها هذا البرنامج.
وفي هذا السياق، يمكن الاستئناس بأهم ما ساقه الإمام المرشد رحمه الله، في كتابه المنهاج النبوي، “فإذا كان من أعمال شعب الإيمان ما يلزم المؤمن مرة في العمر كالحج. ومنها ما يلزم مرة في السنة كصوم رمضان، ومنها ما هو موقوت مضبوط كالصلاة والزكاة، ومنها ما يسنح في أوانه وبمناسبته كعيادة المريض وتشييع الجنازة، ومنها ما هو فرصة دائمة كإماطة الأذى عن الطريق، ومنها ما هو صفة نفسية مصاحبة كالحياء، ومنها ما ينبغي أن يصبح عادة راسخة كقول لا إله إلا الله، “فإن هناك معالمَ أساس لبرنامج المؤمن وليلته نسوقها هنا استئناسا لا إجمالا منها:
– يبدأ المؤمن يومه ساعة، أو سويعة إن تكاسل ولا ينبغي له، قبل الفجر يصلي الوتر النبوي إحدى عشر ركعة. ثم يجلس للاستغفار ليكون من المستغفرين بالأسحار.
– الجلسة بعد صلاة الصبح إلى الشروق سنة. فذاك زمن مبارك يحافظ عليه المؤمن ما أمكن تلاوة، جزءا في اليوم بين صباح ومساء وذك تعلما وحفظا.
– صلاة الضحى صلاة الأوابين.
– السنن الرواتب، وليوتر قبل النوم من لا يقوى على القيام أو يخاف فوات الوقت، ووتر السحر أمثل.
– ثلاث جلسات من ربع ساعة على الأقل لذكر لا إله إلا الله مع حضور القلب مع الله عز وجل.
– الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (300 مرة على الأقل يوميا)، وتخصيص ليلة الجمعة ويومها للصلاة عليه.
– قبل النوم توجه لله عز وجل، وحاسب نفسك، وجدد التوبة، ونم على ذكر الله وعلى أفضل العزائم، ليكون آخر عهدك باليقظة مناجاة ربك أن يفتح لك أبواب الجهاد والوصول إليه.
– إن كنت طالبا فابذل الجهد الكافي والوقت الكافي للمذاكرة. فأول واجباتك بعد الصلاة والتلاوة والذكر وتحصيل الحد الأدنى من العلم أن تنجح في دراستك وتتفوق.
– ساعة لأسرتك الإيمانية أو لزيارة دعوة ودراسة 11.
وتبقى شعب الإيمان – من أعلاها: قول لا إله إلا الله إلى أدناها: إماطة الأذى عن الطريق – منهاجا متكاملا ينبغي للمؤمن أن يتخذها مرجعا عمليا لتأطير برنامج يومه وليلته محتكما إلى كتاب الله المجيد وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجعل يومه وليلته اجتماعا لقلبه وكيانه على الله بحيث يكون همه الله ونيل ما عنده، في غير تفريط في حق نفسه وأهله، وفي غير إضاعة للأمانة وللأعمال الموكولة إليه في مهنته وصناعته وحرفته.
تم بحمد الله
[2] سورة الأحزاب 21.
[3] عبد السلام ياسين، المنظومة الوعظية ص: 35 ، الطبعة الأولى مطبوعات الأفق 1996.
[4] عبد السلام ياسين، الإحسان 1، ص 17، الطبعة الأولى، مطبوعات الأفق 1998.
[5] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 49، الطبعة الثانية 1989.
[6] نفس المرجع ص 46.
[7] منير الكراكي، يوم المؤمن وليلته: النقلة إلى زمن العبادة، https://www.youtube.com/watch?v=Ftazx5xnzJ0.
[8] في أحد مجالس النصيحة، سلا، 15 دجنبر 2018.
[9] سورة الإسراء: 70.
[10] سورة الحجرات: 13.
[11] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص ـ 49، 50 الطبعة الثانية 1989.