الأسرة الناجحة.. آل سيدنا أبي بكر رضي الله عنهم نموذجا

Cover Image for الأسرة الناجحة.. آل سيدنا أبي بكر رضي الله عنهم نموذجا
نشر بتاريخ

تقديم

لنا مع آل أبي بكر رضي الله عنهم وقفات باعتبارهم نموذجا للأسرة المسلمة الناجحة والمتماسكة، فلم آل أبي بكر رضوان الله عليهم تحديدا؟

أولا: حتى نتتبع أثر صحبة رسول الله في أحوالهم، فآل الصِّدِّيق جميعهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجلى فيهم النموذج العملي الحي للتربية النبوية التي صنعت من الضعف البشري بإذن الله تعالى وتوفيقه القوة والعزم.

ثانيا: لكي نستلهم من البيت الصديقي الدروس، دروس تعلمنا لنتحلَّى بالروح، ونتحلى بالخُلُق، وننبعث بالإرادة في بيئة هي أشد تعقيدا وأعظمُ ابتلاء من بيئتهم. ومن ثمة نستخلص أسس ومقومات البناء الأسري، لتعم بيوتا مسلمة ضعف فيها الإيمان وفترت المحبة وغاب عنها الإحسان والسكن والسكينة والمرحمة..

فهيا بنا نطرق باب هذا البيت السعيد، ونستنطق النموذج الصديقي في وقفتين اثنتين:

الوقفة الأولى: أبو بكر الصديق وأثر الصحبة قبل البعثة

رب هذه الأسرة وقدوتها والقَيم عليها، هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي، الكريم في أصله ونسبه، والخلوق بطبعه، والعفيف المتعالي عن أفعال الجاهلية. أهم خصاله ما جاء في سيرة ابن هشام: “وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها، وبما كان فيها من خير وشر؛ (من رقيق خصاله أنه لم يكن يعيب نسبا، إن علم شرا سكت، ولا يذكر المثالب والنقائص)، وكان رجلا تاجرا، ذا خلق ومعروف” [1].

هذا الرصيد الخلقي الجامع  زاد عليه  الإمام البخاري نقلا عن عائشة رضي الله عنها  قالت: “خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدّغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر، فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدّغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق” [2]،  يبدو أن هذه الصفات  الخمس كانت معيار كمال الأخلاق ومنتهى النعت الحسن لدى العرب في الجاهلية، يعلق ابن حجر قائلا: “وفي موافقة وصف ابن الدغنة لأبي بكر بمثل ما وصفت به خديجة النبي  صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظيم فضل أبي بكر واتصافه بالصفات البالغة في أنواع الكمال” [3].

وأنا أقول: هذا أثر الصحبة وفضلها على الصديق قبل البعثة، فعلى قدر المصحوب ينتفع الصاحب، أثمرت الملازمة الموافقةَ، فكان أشبه النّاس أخلاقا برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم، قبل أن يتعلم منه الإيمان تعلم منه صفاء الروح وصدق الفعال ونبل الأخلاق. إن المرء على دين خليله وصاحبه، على نهجه وعلى سلوكه وعاداته وهمته.

نعم كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، ولكن ما الدليل على أن الصحبة سبقت البعثة؟

يرجح عدد كبير من الباحثين أنه كان يسكن بمكة في الحي الذي يسكن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعته به روابط الصحبة والجوار، جاء في السيرة الحلبية “كان صديقا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر غشيانه في منزله ومحادثته، وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه.. فكان توقعا لذلك” [4]، وينقل الحافظ ابن حجر عن ميمون بن مهران وهو عالم الجزيرة ومفتيها في عهد عمر بن عبد العزيز قال: “لقد آمن أبو بكر بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم من زمن بحيرا الراهب” [5]، ويضيف الإمام البيهقي: “وهذا لأنه كان يرى دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمع آثاره قبل دعوته، فحين دعاه كان قد سبق فيه تفكره ونظره؛ فأسلم في الحال” [6].

وأختم هذه الوقفة بالتأكيد على أن الصحبة مفهوم مركزي ومؤثر في السلوك الإنساني، هي مفتاح الخير الكثير وهي الملاذ الآمن، فالصحبة أول الطريق.

رجل بمثل هذه الصفات صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية والإسلام كيف أقام بيته؟ على أية قواعد ومنطلقات؟

الوقفة الثانية: آل أبي بكر رضي الله عنهم ومقومات البناء الأسري السعيد

سأتحدث عن أسس ومرتكزات أربعة وأستدعي لها شواهد من بطون كتب التراجم والسير ومن مصنفات الحديث النبوي.

الأساس الأول: التربية على خصال الخير والتقوى

الوظيفة الفطرية للوالدين أن يبثا في الذرية أمانة الإيمان بالله مصحوبة بأداء أمانة تربية الجسوم وتعهد العقول، فالتنشئة على المحبة والرحمة والرفق والصدق والتناصح والبذل والمواساة بين أفراد الأسرة.. تنتج بيئة أسرية مترابطة متوازنة وداعمة لبعضها البعض خاصة عند الكبر.

نطل على بيت الصديق وحظه من هذه المكرمات من خلال ثلاثة شواهد:

– الشاهد الأول

جاء في مسند الإمام أحمد: “عن أسماء بنت أبي بكر قالت: “لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله معه: خمسة آلاف درهم، أو ستة آلاف درهم .قالت: وانطلق بها معه، قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: قلت: كلا يا أبه، إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا، قالت:  فأخذت أحجارا، فوضعتها في كوة البيت، كان أبي يضع فيها ماله، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده، فقلت: يا أبه، ضع يدك على هذا المال، قالت:  فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إن كان قد ترك لكم هذا، فقد أحسن، وفي هذا لكم بلاغ، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكني قد أردت أن أسكن الشيخ بذلك” [7].

نقرأ في الحديث حرص الجد على أبنائه، فرغم الكفر ما كانت بينهم العداوة والبغضاء، وبالمقابل برت الابنة الرشيدة الرزينة بجَدها وحفظت الود، ودارت ثم دارت تأليفا للقلوب وعطفا على جدها حتى لا يغتم، تتجلى هنا قيم المودة والمواساة، وجميل هذا التواصل الإيجابي. 

– الشاهد الثاني

جاء في مسند الإمام ابن راهويه “عن عكرمة، أَن أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَتَتْ أَبَاهَا تشكو الزبير فَقَالَ لها: ارْجِعِي يَا بنية، إن صبرت أحسنت صُحْبَتَهُ ثم مَاتَ فَلَمْ تَنْكِحِي بَعْدَهُ وَدَخَلْتُمَا الجنة كنت زوجته” [8]، ونقل كذلك ابن وهب عن مالك “فشكت إلى أبيها أبي بكر فقال لها: أي بنية اصبري فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجك في الجنة” [9].

ماذا يستفاد من المشهد؟

– تصبر أسماء رضي الله عنها على المشقة وشظف العيش، ولم تصبر على الشدة وغلبة الغيرة، وهي التي نشأت على الرفق والحنو مع أبيها الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر) [10]..

– مساندة الأسرة وقت الأزمات خاصة الأب، هو وَتد البيت وعماده، فلا يقتصر دوره على الإنفاق فقط، بل وظيفته الاحتضان والرعاية والنصح. ومن الحديث نستخلص موقفا حكيما  لأبي بكر  رضي الله عنه حين تدخل لمعالجة مشاكل الأبناء، رق قلبه لحال ابنته وساعدها بإرسال خادم تعينها، ثم نصحها بالصبر والمداراة، أخجليه بإحسانك يا أسماء.. أرادها أن تتعلم أن “قاعدة البناء في الأسرة المسلمة يمسكها العدلُ. لكن العدلَ وحده بمثابة ميكانيك جاف تصطك أجزاؤه عند كل حركة إن لم تزيت الحدائد وتُلطّفْ. ملطف الحياة الزوجية الإحسان بعد العدل، الإحسان قبل العدل، الإحسان مع العدل” [11].

– الشاهد الثالث

قالت فاطمة بنت المنذر وهي حفيدة أسماء رضي الله عنها: “إنَّ أسماءَ بنتَ أبي بكرٍ كانت تمرض المَرضة فتعتقُ كل مملوك لها” [12]،  ويصف عروة بن الزبير إنفاق أمه وخالته قائلا: “مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَط أَجْوَدَ مِنْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ، وَجُودُهُمَا مُخْتَلِفٌ: أَمَّا عَائِشَةُ فَكَانَتْ تَجْمَعُ الشَّيْء إِلَى الشَّيء، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ عِنْدَهَا وضعته مواضعه، وأما أسماء فَكَانَتْ لَا تَدَّخِرُ شَيْئًا لغد” [13].

الفائدة هنا تكمن في أهمية التربية بالقدوة، أن ينشأ الأبناء في أسرة تقي نفسها الشح والأنانية، وتفارق عادات الاستهلاك والتبذير لتترسخ في الأبناء أخلاق البذل في سبيل الله والتقلل، وما التقلل إلا عن الهمة العالية، هو “تضييق إرادي على النفس في الكماليات لا في الضروريات” [14].

إذن هي أسرة سلك نظامها المعاشرة بالمعروف والبر والود والتعاون، وقبل هذا وبعده إرادة وجه الله تعالى والآخرة.

الأساس الثاني: تقاسم المسؤولية وإشراك الأبناء والثقة في قدراتهم

 نتتبع هذا التقاسم والإشراك في مشهد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، جاء في صحيح البخاري: “قالت عائشة: فبينا نحن يوما جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا متقنعا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، قال أبو بكر: فدا لك أبي وأمي، والله إن جاء به في هذه الساعة إلا لأمر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال حين دخل لأبي بكر: أخرج من عندك، قال: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، قال: فإني قد أذن لي في الخروج، قال: فالصحبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: نعم” [15].

اقترح الصديق رضي الله عنه مشاركة أبنائه هذا الشرف العظيم، دفع بهم للعمل الميداني فاستعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،  الفائدة هنا: الأبناء مصدر ثقة واعتزاز وسند، لنثق في قدراتهم، ولندعهم يشاركوننا في المواقف المختلفة لبناء الذات واكتساب التجارب.

انبرى الشباب لتنفيذ مخطط الهجرة واعون بما هي المهمة، ثابتة أقدامهم، ومتوكلون على ربهم تعالى، فكانت أدوارهم كالآتي:

المشارك الأول: سيدنا عبد الله: أكبر أبناء الأسرة الكريمة، تحَمل مسؤولية نقل الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لم أوكلوا إليه هذه المهمة؟ تجيبنا سيدتنا عائشة رضي الله عنها “فَمكثا فيه ثلاث لَيَالٍ، يبيت عندهما عبد اللَّهِ بنُ أبِي بَكْرٍ، وهو غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ (سريع الفهم) ثَقِفٌ (حاذق وفطن)، فيرحل من عندهما سحرا، فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام” [16]، في قلب الخطر يؤدي مهمته بأمانة وهمة لا تنِ، فالشباب هم عدة المستقبل وأمل التجديد.

والمشاركان الثاني والثالث؟ وهل يتصور بناء دون مشاركة المرأة؟   

المشاركة الثانية هي أسماء رضي الله عنها: تُجهز زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر للهجرة، روى البخاري: “عن أسماء رضي الله عنها قالت: صنعت سفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، قالت: فلم نجد لسفرته ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي قال: فشقيه باثنين، فاربطيه: بواحد السقاء وبالآخر السفرة، ففعلت فلذلك سميت ذات النطاقين” [17]، والنطاق هو مَا تَشُدُّ بِهِ الْمَرْأَة وَسَطهَا لِيَرْتَفِع بِهِ ثوبها مِن الْأَرْض عِند الْمِهْنَة. تشارك رضي الله عنها في ترتيبات الهجرة بجد وتفان.

ثم تصبر على أذى أبي جهل وهي حامل بابنها عبد الله، قال الإمام الذهبي: “قال ابن إسحاق: حدثت عن أسماء قالت: أتى أبو جهل في نفر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: لا أدري والله أين هو؟ فرفع أبو جهل يده، ولطم خدي لطمة خر منها قرطي، ثم انصرفوا” [18].

ولنا أن نتصور المشهد: جوُّ خوفٍ وقهر وأذى وترصُّدٍ وهجرة.. وكانت المرأة حاضرة أقوى حضور يومئذ في صناعة المستقبل، لم تكن حبيسة بيت الجهل والاستقالة من الحياة، شاركت مستعينة بالله تعالى وبحبل إخوتها، فصبرت واحتسبت وما أفشت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والثالثة عائشة رضي الله عنها: مشاركة شابة صغيرة، تساعد في إعداد الطعام مع أمها أم رومان وأختها رضي الله عنهن، لكن مهمتها الكبرى آنذاك، كانت نقل وقائع الهجرة وحفظ تفاصيلها، استوعبتها سيدتنا عائشة وكأنها جزءٌ منها حتى بلغتها وروتها للأمة.

مع هذا الفريق الشاب ظهرت ثمرات التربية الإيجابية الناجحة، كانت الفاعلية في الأداء والثبات على العهد والمبدأ، عين الله ترعاهم وصحبة رسول الله تظلهم وتسعدهم.

الأساس الثالث: التربية المستندة على تنمية المهارات ورعاية المواهب 

والمقصود تطوير مواطن القوة عند الأبناء وتوظيفها لإعداد شخصية مؤمنة قوية متوازنة. أبدأ أولا مع سيدنا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، تأخر إسلامه إلى فترة الصلح نعم،  ولكن حسن إسلامه بعد ذلك، كان رضي الله عنه يتخلق بالصدق منذ الصغر كأنما ورثه عن أبيه الصديق، قال سعيد بن المسيب: “ولم يُجرب عليه كِذْبة قط” [19]. وكان جوهر شخصيته الولاء المطلق لما يؤمن به، “قال عنه ابن عبد البر: كان شجاعًا رامِيًا حسنَ الرمي، وشهد اليمامة، فقتل سبعة من أكابرهم؛ منهم مُحَكّم اليمامة؛ وكان في ثلمة من الحصن، فرماه عبد الرحمن بسهم فأصاب نَحْرَه فقتله، ودخل المسلمون من تلك الثلمة” [20]. استثمرت التربية النبوية هذه المواهب وشجعتها فظهرت مهارته وفطنته وجرأته في ساحات الجهاد، كان رضي الله عنه طاقة من طاقات الجهاد.

وأنتقل إلى بنات الصديق رضي الله عنهن، فقد نلن الحظ الوافر من الرعاية ووراثة العلم. فأسماء رضي الله عنها كانت أعبر الناس للرؤيا، ذكر الذهبي: “كان سعيد بن المسيب من أعبر الناس للرؤيا، أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر، وأخذت عن أبيها” [21].

أما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الفقيهة العالمة التي تعجب من سعة علمها عروة بن الزبير رضي الله عنهما، “كان يقول لعائشة: يا أمتاه، لا أعجب من فهمك، أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس أو من أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو؟ ومن أين هو؟ قال: فضربت على منكبه وقالت: أي عرية، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره، فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له، فمن ثم” [22].

نشأت رضي الله عنها في كنف صحبة خير البرية، تعلمت منه صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، فكانت نبعا فياضا لنور الإيمان، من قلبها الطاهر سرت مادة الإيمان إلى من صحبوها، فكانت الوَصْلَةُ قلبية كما هي علمية، تربوية كما هي تعليمية. فقد استودع آل أبي بكر صغارهم عندها لينهلوا من أدب النبوة، فخرّجت من بيت الصديق وغيره أئمة الهدى والعلم ممن تربوا في حجرها أمثال: عروة بن الزبير وابن أخيها القاسم بن محمد.

الأساس الرابع والأخير: التوافق حول الهدف الرسالي

 تنطلق الأسرة الرسالية من الصلاح الفردي إلى الإصلاح الجماعي، رسالتها الدعوة إلى الله، لها قضية مع ربها وموعد مع الأمة للتغيير ودعم البناء، وأسرة الصديق رضي الله عنه كانت كذلك، بذلت المال والجهد والعلم والنفس لأداء الرسالة، أسرة رسالية تحيا بالله تعالى، ولله تعالى، ومع الله تعالى. إرادة الله كانت الباعثَ، وخشية الله كانت الرقيبَ.

خلاصة جامعة

– لم تكن الصحبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا مجردا للنصوص وامتثالا جافا للأوامر، إنما هي محبة تنمو وتتجذر في القلوب بالملازمة والمخالطة والتلمذة، ففي أحضان النبوة تربى الصحابة ورشفوا واستقوا، حتى تفجرت في قلوبهم ينابيع الإيمان وكانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأتقاهم عملا. 

– ذلك التحول القلبي الإرادي الذي نقل آل أبي بكر من منزلة إلى أخرى عبر شدائد مكة وجهاد المدينة، تحقق بفضل التربية النبوية القرآنية التي تعهدتهم بالرفق والصبر وفضيلة التدرج، فكانت التقوى فاعلة والإرادة جامعة بانية.

– إن الصحبة في الله مستمرة ولم تنقطع، وستظل وصلة قلبية ورفقة منهضة وبيئة تربوية رَوِيّة دالة على الله تعالى.

وسلام على آل أبي بكر رضوان الله عليهم في الخالدين.

والحمد لله رب العالمين.


[1] – السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، مؤسسة علوم القرآن،  1/ 250.
[2] – صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، رقم الحديث 3694.
[3] – فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الريان للتراث، 1986،  7/272.
[4] – السيرة الحلبية، علي بن إبراهيم بن أحمد الحلبي الشافعي، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط2، 1428 ه، 1/389.
[5] – الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1415ه ، 4/144.
[6] – دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، حمد بن الحسين بن علي الخراساني البيهقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1989م، 2/164.
[7] – المسند، أحمد بن حنبل، مسند النساء حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، رقم الحديث 26957.
[8] – المسند، إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، رقم الحديث  2250.
[9] – التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي، دار المنهاج، 1425،  2/120.
[10] – سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد الربعي القزويني، ابن ماجه، باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم 154.
[11] – تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 4، 2018، 1/186.
[12] – تهذيب الأسماء واللغات، شرف النووي، إدارة الطباعة المنيرية – القاهرة، 2/329.
[13] – الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، رقم الحديث 280.
[14] – الإحسان، عبد السلام ياسين، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط 2، 1/408.
[15] – صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب اللباس، باب التقنع، رقم حديث 5807.
[16] – صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، كتاب اللباس، باب التقنع، رقم حديث 5807.
[17] – صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب حمل الزاد في الغزو، رقم الحديث 2817.
[18] – سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، مؤسسة الرسالة، 2001، 2/ 290.
[19] – الإصابة في تمييز الصحابة، مرجع سابق، 4/275.
[20] – المرجع نفسه، 4/275.
[21] – سير أعلام النبلاء، مرجع سابق،  2/293.
[22] – مسند الإمام أحمد، مسند النساء، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها، حديث رقم 24380.