الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (5).. الإنسان في مفهوم التنمية البشرية المعاصرة

Cover Image for الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (5).. الإنسان في مفهوم التنمية البشرية المعاصرة
نشر بتاريخ

لقد أصبح جوهر التنمية وهدفها الاستراتيجي ينطوي على إحداث التمكين للأفراد من خلال المساواة في فرص الحياة، وتحرير إرادة الإنسان، وذلك من خلال استثمار الطاقات البشرية للإنتاج والإبداع لتحقيق الإشباع، وأما شروط تحقيقها فهي التوازن بين كل القطاعات الاقتصادية، والشمول لكل المناطق والمساحات، والمساواة بين كل الفئات والأفراد. الأمر الذي يتطلب وجود مشروع اجتماعي متفق عليه من كل أفراد المجتمع، تشارك في تنفيذه كل فئاته وطبقاته، دون إغفال للمفاهيم والمحددات الأساسية للنمو. وفيما يلي سنسلط الضوء على مفهوم التنميّة البشرية ومضامينها:

مدخل في مفهوم ومضمون التنمية

التنمية البشرية مفهوم مركب، نشأ عن تراكم منظور المجتمع الدولي لحقوق الإنسان، فأصبح لا يضم النمو الاقتصادي فحسب، بل يضم ما له صلة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمعرفية والبيئية للإنسان حاضرا ومستقبلا. وبذلك “أصبحت التنمية عملية موجهة لخدمة الإنسان عقليا وجسديا ووجدانيا من خلال ربطه بالمواطنة الصالحة، وإرساء دولة الحق والقانون، كما تروم تحقيق توازنه البيئي والبيولوجي والنفسي عن طريق تحسين معطيات حياته المادية والاقتصادية والاجتماعية، وتحسين مستوى معيشته من خلال الاهتمام بضمان صحته ورفع دخله الفردي، وتوفير منظومة تربوية متقدمة تؤهله للانفتاح والمساهمة في بناء المجتمع وتطويره” 1، وبشكل عام نخلص إلى أن التنمية البشرية هي اعتراف بالإنسان إذ تعتبره ثروة حقيقية وجب استثمارها بشكل علمي لإخراجه من بؤر التخلف والفقر والإقصاء.

أبعاد التنمية البشرية

يتسم العالم المعاصر بتعاظم دور العلم والمعرفة، حيث تمثل المعارف والقدرات البشرية المرتبة الأولى لتحقيق التنمية الشاملة، فالتنمية البشرية تهدف إلى بث الوعي والمعرفة من جهة وصقل القدرات والمهارات وزيادة الفاعلية وتحسين الأداء والإنتاجية من جهة ثانية. تعتبر القدرات البشرية من المقاييس الأساسية التي تقاس بها ثروة الأمم باعتبار أن هذه القدرات هي أهم المكونات المؤثرة في الوضع الاقتصادي والاجتماعي للدول، وأصبح الإنسان ودرجة كفاءته هو العامل الحاسم لتحقيق التقدم، حيث يمثل العنصر البشري عنصرا رئيسيا من عناصر الإنتاج، وبالتالي يصبح الاهتمام بهذا العنصر ضروري ومؤكد، وذلك من خلال:

1. بناء القدرات البشرية

وذلك بتوسيع الخيارات أمام البشر من خلال بناء قدراتهم، وبمشاركتهم الذاتية في هذا البناء، فهي عملية شاملة تشمل الصحة والتعليم والتدريب والتخطيط، وتركز على أهمية التطوير الذاتي للأفراد، بالعمل على تنمية مؤهلاتهم وزيادة وعيهم بجهودهم الذاتية. ولا يمكن لهذه التنمية أن تتحقق للإنسان إلا إذا توفرت له مجموعة من الحقوق: حقه في حياة كريمة، حقه في الحصول على المعرفة، حقه في توفير الاحتياجات الأساسية، بحيث تمكنه من التمتع بالاستقلالية، والاختيار الحر، والاعتماد على الذات، وبالتالي يكون قادرا على العطاء من خلال أداء فعال وإنتاج عالٍ، لذلك فإن التنمية بشكل عام لا تستطيع أن تحقق أهدافها دون إعداد وتكوين ذلك الفرد القادر على الاستخدام الرشيد لمخرجاتها ونتائجها.

2. استثمار القدرات البشرية

يعد الاستثمار في العنصر البشري في مقدمة القضايا التي تعنى بها المجتمعات على اختلاف أنظمتها ومستويات نموها حيث ثبت أنه ليس فقط هو أحد عناصر الإنتاج ومحددات الإنتاجية، بل هو المؤثر الرئيسي في جميع مكونات التنمية بحيث أصبح في مقدمة المقاييس الرئيسية لثروة الأمم، ومن ثم أخذت قضية العناية بتنمية الموارد البشرية -بأفضل السبل وأكثرها جدوى- مكانتها على اعتبار أن الإنفاق على هذه التنمية يعد من أهم وأعلى درجات الاستثمار، خصوصا وأن العالم يشهد يوما بعد يوم تغيرات مستمرة نتيجة للتطورات التي تحدث بفعل الإنسان وتنعكس عليه في ذات الوقت. وقد أصبح من المتفق عليه بين الممارسين والباحثين وغيرهم من المهتمين أن تحقيق التقدم والرفاهية لم يعد يتوقف فقط على ما لدى الدولة من إمكانيات وموارد مادية، إنما يتحقق بدرجة أساسية بقدرتها على استثمار المؤهلات البشرية.

3. تأسيس مجتمع المعرفة

إن الحقبة الراهنة من تطور البشرية والتي تقوم على كثافة المعرفة والتسارع الهائل، أصبحت تعكس مرحلة تاريخية تكون للمعرفة فيها دور كبير، وأصبحت هي المعيار الأساسي في قياس الرقي البشري من خلال دورها في تعزيز وتطوير القدرات الإنتاجية مما يصب في تعظيم الأثر التنموي المتوقع الحصول عليه 2. كما ان اكتساب المعرفة هو أيضا سبيل التنمية البشرية في جميع مجالاتها، إذ أضحى معروفا أنها عنصر جوهري من عناصر الإنتاج ومحدد رئيس وأساسي لقيمته الإنتاجية، أي أن هناك علاقة قوية بين اكتساب المعرفة والقدرة الإنتاجية في المجتمع.

مضامين التنمية البشرية

من خلال تعريف التنمية يمكن أن نستنتج أنها عملية توسيع اختيارات الناس، وتحدد هذه الاختيارات من الناحية الواقعية بمحددات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، بالإضافة إلى ما يمكن أن يكون متاحا من سلع وخدمات ومعارف لتلبية هذه الاختيارات التي يمتد مجالها من الحاجات إلى الطعام والشراب والسكن والتعليم والصحة والبيئة النظيفة وغيرها، إلى الرغبة في المشاركة في كل ما يجري في المجتمع. فالتنمية البشرية تنصرف إلى تنمية الناس بالتركيز على تكوين وبناء القدرات البشرية، كما أنها تنمية من أجل الناس لما تؤكده من ضرورة استخدام هذه القدرات في أنشطة إنتاجية تضمن استمرارية التنمية والتوزيع العادل لثمارها، وهي بالضرورة تنمية بواسطة الناس لأنها تعتمد على توسيع اختياراتهم وتعميم مشاركتهم في اتخاذ القرارات. وعلى ضوء هذا يمكن تحديد مضامين التنمية البشرية في:

1. الأسس والمبادئ

التنمية البشرية كما ذكرنا سابقا تهتم بتطوير قدرات الإنسان للنجاح في حياته العملية وبناء شخصيته بناء متزنا. فالبشر هم الهدف الأساسي للتنمية البشرية، وهم أيضا الأداة الأساسية لتحقيق هذه التنمية. فهي بهذا المعنى لا تعني فقط زيادة الثروة أو الدخل للمجتمع أو الأفراد، وإنما تعني النهوض بأوضاعهم الثقافية والاجتماعية والصحية والتعليمية وتمكينهم سياسيا وتفعيل مشاركتهم في المجتمع وحسن توظيف طاقاتهم وقدراتهم لخدمة أنفسهم ومجتمعاتهم. ووفق هذه المعايير أرسى رواد التنمية مجموعة من المبادئ نذكر منها:

– الإنصاف الذي يركز على إتاحة الفرص المتكافئة للجميع، ولا يقتصر الأمر على الدخل المادي فحسب، بل يتسع ليشمل إلغاء العوائق القائمة على أساس النوع الاجتماعي أو العنصرية أو القومية أو أية عوامل أخرى تحول دون الحصول على الفرص الاقتصادية والسياسية والثقافية لكل فرد في المجتمع.

– الإنتاجية التي ترتكز على الارتقاء بمستوى النمو الإنساني في كافة جوانبه النفسية والاجتماعية والسلوكية والعقلية والمهارية في مختلف مراحل عمره. وهو بذلك يعتبر الأداة الفاعلة للإنتاج على أسس علمية سليمة.

– التمكين ومعناه أن يتمكن الناس باعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات من المشاركة في صنع القرارات، حتى يسهموا بفعالية في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تؤثر في حياتهم. وهو يعني أن يتمكن الناس من ممارسة الخيارات التي صاغوها بإرادتهم الحرة.

2. المؤشرات والمقاييس

يوجد العديد من المتغيرات الأساسية والجوهرية التي تتضمنها التنمية البشرية والتي تمثل مؤشرات لقياس مدى نموها في أي زمن وفي أي مجتمع. ولعل من أهم هذه المتغيرات:

– التقدم الاجتماعي الذي يشير إلى سهولة الوصول إلى المعلومات، والحصول على الخدمات الصحية والتعليمية والغذائية بالكفاءة المطلوبة.

– الكفاءة؛ وخاصة فيما يتعلق باستخدام الموارد وإتاحتها. فالتنمية البشرية هي عملية تتسم بالإبداع والفعالية في تحقيق النمو الذي يفيد الناس وخاصة الفقراء منهم والفئات المحرومة.

– العدالة؛ وخاصة العدالة الاجتماعية والعدالة الاقتصادية والعدالة في توزيع الموارد والعدالة السياسية وغيرها.

– المشاركة والحرية؛ وخاصة في مجالات التمكين والحكم الديموقراطي، والمساواة بين الجنسين، والحقوق السياسية والقانونية، والحريات الثقافية والإبداعية.

– الاستدامة؛ ومعناها الاستمرار في الأجيال التالية، وخاصة في المجالات الاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية.

– الأمن الإنساني ومعناه شعور الإنسان بالأمان ضد العديد من التهديدات المرضية في المجتمع، مثل الجوع والأزمات المفاجئة كندرة الموارد الأساسية والبطالة والأمراض المتوطنة والمعدية وغيرها.

3. محاور التنمية البشرية

حدد “علي حيدر” من خلال دراسته لمختلف التقارير الصادرة حول التنمية البشرية منذ سنة 1990 عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، محاور أساسية لتفعيل مضمون التنمية البشرية وفق ما يلي 3:

– تحرير الإنسان من كل ما يعترض تطوير معارفه وقدراته، وتمكينه من الارتقاء بهذه المعارف والقدرات، واكتساب المهارات والخبرات التي تساهم في إطلاق طاقات الإبداع الكامنة فيه.

– تمكين الإنسان من توظيف قدراته ومعارفه ومهاراته في أعمال مفيدة، وذلك من خلال التوسع المستمر في الطاقات الإنتاجية التي تكفل فرصا كافية لتشغيل كل قادر على العمل.

– تحرير الإنسان من كل القيود التي تحرمه من المشاركة في صنع القرارات التي تمس شؤون حياته، وشؤون مجتمعه.

– تحرير الإنسان من الفقر والحرمان ومن كل صنوف الظلم الاجتماعي، وتمكينه من إشباع حاجاته الإنسانية المشروعة.

– تمكين الإنسان من تحسين نوعية حياته وتأمين ما يكفي من الموارد الطبيعية لتحقيق مستوى معيشي لائق، وصيانة حقهم في العيش ببيئة نظيفة.

– إعادة بناء السلطة السياسية في المجتمع، بما ينقل سلطة اتخاذ القرارات إلى الطبقات والفئات صاحبة المصلحة في هذا النوع من التنمية.

مجالات التنمية البشرية

إن عملية التنمية البشرية عملية متكاملة، إذ تهتم بتطوير خصائص الإنسان وطاقاته الذاتية والمكتسبة، واستثمارها الاستثمار الأمثل من خلال اتباع سياسات تنموية توفر مستويات معيشية مرتفعة، تلبي حاجات الإنسان والمجتمع. فمفهوم التنمية البشرية توسع ليشمل مجالات عديدة منها التنمية الذاتية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، وغيرها، ونتوقف وباختصار على أهم تلك المجالات:

1. المجال الاجتماعي

المجال الاجتماعي هو أحد مجالات التنمية البشرية المتعددة، وهو يهتم بتوعية الأفراد بقيمة العلاقات الاجتماعية المتنوعة بين المنظمات وبين الأفراد، وهكذا يساهم في تحسين قدرة الفرد في مواجهة التحديات والمشكلات، مع تعزيز فعاليتها في نفس الوقت في المجتمع. وهو تطور البشر في علاقاتهم المترابطة، وفقا لكلمات أحد علماء التنمية هوبهاوس 4، وهذا ما يطلق عليه التوازن في العلاقات الاجتماعية، لذا فإن تبديل البنية الاجتماعية لا يعني له شيئا ما لم يكن هناك تحول في طبيعة العلاقات الاجتماعية، ولهذا السبب ينظر إلى التنمية الاجتماعية على أنها تحسن السلوكيات الإنسانية المتبادلة.

2. المجال الاقتصادي

يهتم المجال الاقتصادي برفع إنتاجية الأفراد في المؤسسات المختلفة، مما يعزز قيمة هذا المجال بين مجالات التنمية البشرية جميعا، إذ إنه يتعامل مع طرق زيادة معدلات الإنتاج في مختلف المجالات من خلال الاستفادة من المورد البشري، وذلك عبر تنمية المهارات وشحن الطاقات. وبشكل عام، تعرف التنمية الاقتصادية بأنها الحدث الذي يتم من خلاله الانتقال من حالة التدهور إلى حالة التطور، مما يتطلب تبديل الهياكل الاقتصادية، وبالتالي زيادة في الإمكانات الإنتاجية للموارد الاقتصادية.

3. المجال السياسي

يهتم المجال السياسي بالعوامل المتصلة بالديمقراطية والتي تساهم في تحقيق أعلى كفاءة لها، وبالتالي يعد القطاع السياسي من أبرز مجالات التنمية البشرية المختلفة، والذي يهدف إلى عدم احتكار السلطة وتحقيق المساواة، ورفع وعي الأفراد بقيمة التعاون في جميع الانتخابات، بصرف النظر عن كونها محلية أو رئاسية، لأن السياسة تستند على الفرد بنطاق واسع. وتعرف التنمية السياسية بأنها مجموعة الآليات التنموية التي تحرص الدول على تبنيها من أجل تنشيط قدرتها على مواجهة التحديات السياسية الخارجية الدولية.


[1] جميل حمداوي، المجتمع المدني أساس التنمية البشرية في العالم العربي، الموقع الإلكتروني: دراسات، نشر في 12/3/2007.
[2] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية، 2003، ص 37.
[3] حسن مادي: محاربة الأمية، مدخل لتحقيق التنمية البشرية، ص: 28.
[4] ليونارد تريلا ونيهو بهاوس كان أحد المنظرين السياسيين الليبراليين البريطانيين وعالم اجتماع، يعتبر من أوائل أنصار الليبرالية الاجتماعية وأبرزهم.