الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (10).. خلاصات عامة

Cover Image for الإنسان بين المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (10).. خلاصات عامة
نشر بتاريخ

على ضوء ما سبق، نخلص إلى أن الإسلام منظومة متكاملة وشاملة لكل أبعاد الوجود الإنساني. فقد رأينا منظور الإسلام للإنسان يكتسي خصوصية تقوم على التكريم والتشريف الإلهي له، ومخاطبته على قدم المساواة، ومحاسبته بمعيار وميزان التقوى، الذي لا يستند لا إلى وجاهة اجتماعية ولا إلى نسب شريف؛ وإنما إلى صفاء القلب وخلوه من شوائب الحقد والكراهية. كما رأينا بشكل عام، مفهوم التنمية البشرية وأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إذ هي تنطلق من الإنسان لتوجه إلى الإنسان، ثم تخدم هذا الإنسان. لكن ما لا يمكن نفيه هو أن التنمية لا يمكن اختزالها في مجر د اقتباس نموذج رأسمالي أو غيره باعتباره الوصفة الطبية الجاهزة لمرض التخلف المزمن.

ثم انتقلنا إلى معالجة موضوع الإنسان في المنهج الإسلامي ومنهج التنمية البشرية، وبعد الوقوف على أوجه التشابه والاختلاف بين المنهجين، يتضح أنه وبالرغم من وجود نقاط اختلاف إلا أن المنهجين لا يتعارضان بالشكل الذي ينفي أحدهما الآخر، فإلى جانب نقاط الاختلاف توجد العديد من نقاط الالتقاء بينهما، ولعل أهمها هو أن كلا المنهجين يتفقان حول اعتبار الإنسان غاية التنمية ووسيلتها في نفس الوقت. كما يمكن للمنهجين أن يتكاملا في بعض الجوانب كجانب القياس مثلا، فبينما يعتمد المنهج الإسلامي مقياسا روحيا لتقييم التنمية البشرية، فإن المنهج الوضعي يعتمد مجموعة من المؤشرات التقنية المطورة، وسيكون من الأفضل لو تم دمج المقياسين والأخذ بكليهما، إذ لا غنى عن المقاييس المادية في تقييم الإنجازات في مجال التنمية البشرية، كما أن المقياس الروحي قد يحل إشكالية القياس بالنسبة لبعض جوانب التنمية البشرية ذات الطابع الأخلاقي والقيمي.

كما يجب استحضار البعد البنائي للتنمية حيث إنها عملية تستهدف بناء القدرات الإنسانية، فإن لم يتأسس هذا البناء على “إرادة قوية وإن لم يُدبَّر بأيد حكيمة فلن يكون إلا ثِقلا يطْمِر الساكنين”. لذا إن لم ننطلق من أصول شريعتنا السمحاء، “ومن فَرْضية السعي والكسب والعدل والعمل الصالح. يكون السعي النشيط والكسب الحلال والعدل المعمَّمُ والعمل الصالح باعث الفرد، وقانون المجتمع، ودين الدولة، وضابط المستثمر والصانع والأجير. وكل تنمية نحاولها، وهي ممتنعة، دون إسلامنا فإنما تكون تنمية لتبعيتنا وتوغلا في عبوديتنا للأقوياء” 1. ولضمان هذا التغيير الإيجابي نقترح ما يلي:

1. تربية الإنسان بالنظر العميق في أهمية التربية وموقعها في تغيير ما بالإنسان. فلا عبرة إذن بأي مظهر من مظاهر التغيير ولا بأي شكل من أشكاله الخارجية ما لم تكن نابعة من داخل الإنسان، ولا حاجة لتضييع الوقت في أشكال التغيير ما لم تصحح نقطة “هذا التغيير الجذريُّ في تصور الإنسان لنفسه، وللعالمين الدنيويِّ والأخروي، وللمسؤولية بين يدي الله بعد الموت” 2.

2. المنهج والوسائل بالتفعيل العملي التطبيقي لتجربة الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الإنسان وفي إرساء أركان المجتمع، فهي تجربة ترتكز على مرجعية إسلامية إلا أنها انبعثت في واقع بشري مادي محسوس خاضع إلى التغير، وهذا ما يمنحها صبغة المرونة، ليتفاعل معها العقل البشري ويفهمها وفق ظروف عصره. فالمنهاج النبوي هو “التطبيق العملي للشريعة، وإنزالها على أحداث التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغير المتطور، تمثل السيرة النبوية نموذجا فذا له، لكن نموذجا حيا قابلا للتجدد في روحه وإن تنوع الشكل” 3.

3. العمل المنظم الذي تحركه إرادة مبنية بناء خاصا يقوم على حسن استثمار طاقات الإنسان المختلفة. هذا العمل المنظم يحتاج إلى طليعة تنهض بأعباء البناء والتغيير، وإلى تنظيم يجمع جهودها ويرص صفوفها، ويسدد فعلها. وهذا الأمر يتطلب عملا دقيقا على مستوى تحليل واقعنا، وتقديم البدائل لتخليص الأمة من براثن التخلف، ويتطلب كذلك التهيؤ على مستوى الموارد والإمكانيات.

4. السواد الأعظم بتأطير الأمة وتوعيتها بوظيفتها شرط ضروري في هذا التغيير، لذا لابد أن يستند هذا الأخير على الاقتناع الشعبي، والمشاركة الفاعلة من جانب السواد الأعظم.  كما أن هذا السواد ينبغي تأهيله وإشراكه في التدبير ليكسب “القدرة على مسك زمامه بنفسه، على مراقبة الحاكم، على محاصرة المنكر ومحاربته، على اليقظة الدائبة، والمشاركة الفعالة، في كل صغيرة وكبيرة من أمر المسلمين” 4.

5. الدولة المحتضنة لمشاريع التغيير، وهذا الأمر يستوجب مناقشة قضايا كثيرة متعلقة بالحكم الإسلامي ومقتضياته. ولعل أولى هذه القضايا وأهمها هي قضية العدل والعدالة الاجتماعية، تبذل فيهما الدولة الجهود المنشودة، وتسخر له الوسائل الممكنة. وهذا لن يتحقق إلا إذا أدرك كل من يهمه الأمر أن “التنمية وتوفير الأرزاق وتمويل المشاريع وإدارة الاقتصاد وتعبئة الطاقات والتنافس في السوق العالمية أوْلويات ضاغطة لا مُتَنَفَّسَ دون التفرغ لها، ولا عدلَ قبل ترويمها.  وترويمها مشروع مستديم لا عملية سحرية” 5.

من هذا المنطلق، يمكن القول إن ما ندعو إليه ليس إصلاحات جزئية لظاهر التنمية البشرية، بل هو مشروع مجتمعي متكامل واضح الأسس والمعالم على المستوى الفردي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فالتغيير الإيجابي لما بالنفس، ثم استقرار الحكم على الشورى، ثم التنظيم الاجتماعي والسياسي المحكم والمعرفة التكنولوجية وإفساح المجال للخيرات والاستثمارات، كلها بواعث يتوقف عليها نجاح التنمية وإسلاميتها.


[1] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ص 449.
[2] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 88.
[3] عبد السلام ياسين، مقدمات لمستقبل الإسلام، ص 25.
[4] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص 91.
[5] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ص 223.