البحث عن السعادة

Cover Image for البحث عن السعادة
نشر بتاريخ

إلى السعادة دعا الرسل أقوامهم، والمجددون والمصلحون على أثرهم كل زمان. وبالسعادة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن؛ طه مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءَانَ لِتَشْقَىٰٓ (سورة طه، الآية 2)، و”عن السعادة الأبدية أو الشقاوة والعياذ بالله تحدث القرآن أبلغ ما تحدث” 1.

إلى السعادة إذن تهفو النفوس وتتوق، وعن السعادة تكلم الفلاسفة، باعتبارها غاية للأفراد والجماعات، وتبقى سعادة المؤمنين في الدنيا، عربون مقدم لسعادة الآخرة حيث دوام السرور والحبور. فعلى ما تقوم هذه السعادة وبم تنال؟

كيف الوصول إلى سُعادَ ودونهـــا

قُلَلُ الجبال ودونَهُـنَّ حتـوف!

1. القاعدة المادية للسعادة

أوجدنا الله تعالى إلى الحياة الدنيا مثقلين بضرورات، مشدودين بحاجات، مسافرين عابرين من دار الفناء إلى دار البقاء. ولهذا السفر لا بد لنا من زاد وراحلة، فإذا كان الغنى يُطغي فالفقر كاد أن يكون كفرا، وإذا كان الفقد يلهي فالمرض يبلي والجهل ينسي.  ثم إن الفقر “أخو الكفر، والبطون الجائعة، والأجسام المريضة، والعقول الخاوية، لن تسمع أي نداء قبلا من نداء العدل” 2. وقد تعوذ رسول الله ﷺ من الهمّ والحزن ومن غلبة الدّين وقهر الرجال، وتعوذ من القلة والذلة، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه من السعادة “المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء”، ومن الشقاوة نقيض هؤلاء “الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضَّيِّقُ”. فالسعادة ما هي سبح في سماء المعاني دون قاعدة مادية؛ من عافية الأبدان، وأمن الأوطان، وإشباع الجوعان، وسقف يأوي ما تقرّ به العين من زوج وصبيان. وإن رَسُول اللَّهِ ﷺ مع حثه الشباب على الزواج غير أنه شرطه بالقدرة على القيام بحق الأسرة قال ﷺ: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ..” 3.

2. السعادة الإيمانية نقيض السعادة الدّوابية

هذا الإنسان وإن خلق هلوعا فما هو دابة تسعى فوق الأرض لا معنى له ولا لوجوده شأن، وما “غايتُه أن يكون عُلبةً للأكل والإفراز، وآلة للاستهلاك والإنتاج، سعادته اللهو واللعب والفن والعطلة والسِّفاد!” 4، لذلك فالحديث عن سعادة المؤمن شأن آخر خارج عن نطاق السعادة الدوابية؛ سعادة اللذة والشهوة بلا حدود ولا قيود، السعادة التي يلهث وراءها البشر الدابين على الأرض في انقطاع عن المصير وريب أو إنكار للبعث والنشور. ولو كان الأمر كذلك لصارت “الإباحية إذا كان الإنسان لا معنى له، وكان الموت لا حياة بعده، هي عين الحياة. ويصبح التهتك فضيلة إنسانية رفيعة، والمتعة زهرة العمر، غبي محروم من لا يقتطفها يانعة أشكالا وألوانا. والمرأة… هي مركز الرغائب. جسدها عاصمة الشهوة، وزينتها قمة الحضارة، ورقصها أمام الرجال روح الفن، والمتعة المباحة المشتركة بها أساس العدل” 5، مثل هؤلاء كمثل عطشى جيء بها إلى البحر لتروى، فلم تزدد بالشرب إلا عطشا، أو طالب الأمان من أهل غدر، زاد إلى خوفه همّا وقلقا.

3. الجوهر المعنوي للسعادة

نجد في آخر سورة الفرقان كلمة تدل على منتهى السعادة، جاءت بصيغة دعاء لعباد الرحمن يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍۢ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (سورة الفرقان، الآية 74). وقرّت عينه: ضدّ سخنت، وأقرّ الله عينه: أي أعطاه حتى تقرّ، فلا تطمح إلى من هو فوقه 6.

إحدى عشرة خصلة إيمانية خلقية نفسية تعبدية اجتماعية تدبيرية مادية هي مواصفات للعباد المؤمنين والمؤمنات السعداء والسعيدات، “إحدى عشرة خصلة تُتَوَّجُ بالسعادة الأسرية والاجتماعية” 7.

تحدِّثنا آيات الرحمان من أواخر سورة الفرقان عن صفات عباد الله الإحدى عشر: وأولها أنهم عباد لله دون سواه من الهوى والجاه، أو السلطان والشاه، أو المال والعيال والرّفاه. قال رسول الله ﷺ: “تعِس عبدُ الدينارِ، تعِس عبدُ الدرهمِ، تعس عبدُ الخميصةِ، تعس عبدُ الخميلةِ، تعِس وانتكَس وإذا شيكَ فلا انتقشَ” 8. ثم بعد هذا التواضع والرفق ولين الكلام، ولا سيّما مع الأقربين من الوالدين والمولودين وبين الزوجين، قال رسول الله ﷺ: “إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ، مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ الرِّفْقَ إِلَّا قَدْ حُرِمُوا” 9، ثم مع الناس أجمعين، إلا على من اعتدى من الظالمين إخوان الشياطين. عباد للرحمن حقا، يجتنبون الفواحش ويتوقّون لدينهم؛ فلا يشهدون زورا ولا يغشون فجورا، يتجنبون الخوض مع الخائضين، ويُعرِضون عن الجاهلين، ينفقون بقصد لا جنوحا لإسراف وتبذير، أو إمساك وتقتير. لهم حظهم من الليل والعبادة والتبتل. يرجون الآخرة، ويخافون يومَ يخرجون من الأجداث إلى الساهرة.

4. سعادة صفوة الصفوة من العباد

إن المتأمل في حياة الأنبياء والأولياء سيجد الحياة الطيبة بنص القرآن الكريم: “مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثي‌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً” (النحل، الآية 97)؛ ما هي نعيم مقيم وإنما جهد وبلاء وجوع ومرض وسراء وضراء. لذلك لا بد هنا أن نميز “بين سعادة المجاهدين المحسنين، وبين سعادة عامة المسلمين. المحسنون ينتظرون جزاءهم في الآخرة من فضل ربهم صابرين في السراء والضراء… ينقسم المؤمنون والمؤمنات إلى صفوة إحسانية هي حاملة اللواء الصابرة على البلوى، وإلى عامة من اللاحقين. صفوة تعلقت همتها بالله والدار الآخرة فالدنيا عندها امتحان إثر امتحان، على هذا الأساس تعمل. وآخرون نصيبهم من الدنيا يشغل همه الحيز الأكبر في نفوسهم 10.

ومن كان في روض المعارف سارحا

فمـا راقــه مـن بـعـد ذلك مَـسْـــرَح

ولا يفهم من هذا دعوة للرهبنة أو عزوف عن الطيبات التي أمر الله بتناولها فـ”إنه لا يستغني حتى المؤمنون الصادقون المجاهدون عن حد أدنى من الرخاء خاصة في مجتمع الاستهلاك والتكاثر” 11. لكن “السُّدة الإحسانية العالية لمن ينفق من كسبه، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، كما مدح الله في القرآن الكريم فلانا وفلانة وسائر الأنصار رضي الله عنهم” 12، هؤلاء الصفوة من الخليقة لهم سعادة أخرى، لا نسبة بينها وبين سعادة العامة من المؤمنين؛ “فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبيرُ عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيدِه والإيمان به، وانفتاح المعارف الإيمانية والحقائق القرآنية… وليس في الدنيا نعيم يُشبه نعيم الآخرة إلا نعيم الإيمان والمعرفة. ولهذا كان النبي ﷺ يقول: «أرِحنا بالصلاة يا بلال». ولا يقول أرحنا منها” 13.

 وكان بعض العارفين يقول: لقد كنت في حال أقول فيها: إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب! وقال آخر: تمر على القلب أوقات يرقُص فيها طربا، وقال آخر: “والله العظيم الذي لا إله إلا هو، إني في نعم من الله ما رأيت مثلها في عُمْري كله. وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال، ولا يدور في الخيال، وما يصل الطَّرْف إليها”.

على هذا شد يدك ودعهم يرمونك عن قوس واحدة، وإلا فابك على نفسك إن لم تكن لك همة تشتاق وتلتاع أَن فاتك السّوم وسبقك القوم وعمك اللّوم.


[1] عبد السلام ياسين، سنة الله، ط 2005/2، مطبعة الخليج العربي – تطوان، ص 47.
[2] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 2022/5، دار إقدام للطباعة والنشر والتوزيع – إستانبول، ص 346.
[3] متفق عليه.
[4] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 276.
[5] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 141.
[6] مختار الصحاح لابن منظور.
[7] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط 2023/3، ص 159.
[8] البخاري في صحيحه.
[9] رواه الطبراني في (الكبير)، (2/ 306)، (ح2274).
[10] تنوير المؤمنات، م. س.، ج 1، ص 192.
[11] المصدر نفسه، ج 1، ص 193.
[12] المصدر نفسه، ج 1، ص 196.
[13] الإحسان، م. س. ج 2، ص 156.