البذل في المنهاج النبوي حقيقته وأنواعه

Cover Image for البذل في المنهاج النبوي
حقيقته وأنواعه
نشر بتاريخ

مقدمـة

يستعمل الآخر للدلالة على عظم ما أعطى وقدم متباهيا بذلك ومفتخرا، كلمة التضحية، بينما نجد في التصور المنهاجي كلمة هي أولى ما يجب على المؤمن أن يستعمله عندما يقدم شيئا كبيرا أو صغيرا، كثيرا أو قليلا في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وهي كلمة البذل بدل التضحية. يستعمل المؤمن هذه الكلمة للدلالة على احتقار الشيء واستصغاره. فيقول الآخر: ضحيت بكذا وكذا.. ويقول المؤمن: بذلت كذا وكذا طلبا من الله القبول.

فالبذل خصلة من خصال المنهاج النبوي العشرة، وهي الرابعة بعد شروط التربية. وتحت خصلة البذل تنضوي شعب إيمانية خمسة وهي: الزكاة والصدقة، الكرم والنفقة في سبيل الله، إيتاء ذي القربى واليتامى والمساكين، إطعام الطعام، وقسمة المال. وتشكل هذه الشعب الخمسة نظاما إسلاميا لحل المشكل الاجتماعي السياسي: مشكل الظلم الاجتماعي والفقر وسوء القسمة 1 . فما حقيقة البذل؟ وما أنواعه؟

1- حقيقة البذل

البذل كلمة جامعة لكل معاني العطاء والإنفاق والإيثار بدءا ببذل النفس والمال والعلم والجهد والوقت، ومانعة لكل معاني الشح والبخل والمنّ والقعود والدّعة والتواكل.

وهي بهذه الحقيقة برهان على:

– صدق الإيمان: يقول الله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم (آل عمران: 92)، فكثيرا ما اقترن في القرآن الكريم قضية الإنفاق والبذل بقضية الإيمان، وكثيرا ما دلت فيه أيضا على صفة من صفات المؤمنين. يقول الله تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم (الأنفال: 2-4).

وكلمة الرزق إذا أخذناها على العموم فيقصد منها: المال والوقت والجهد والعلم وغيره، بمعنى كل ما يمكن أن يقدمه الإنسان المؤمن تقربا إلى الله تعالى من جانب الفرض أو النفل، من جانب الصرف أو العدل. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: إنما قام الإسلام ويقوم بالمال، فلا غرو أن نجد في أصل تاريخنا إنفاقا عظيما، ولا غرو أن يكون الإنفاق شرطا أساسيا في كمال الإيمان بل في وجود الإيمان) 2 .

– صدق الاقتحام: يقول الله تعالى: فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة (البلد: 12-16). فدلّت الآية على أن من شروط اقتحام العقبة إلى الله تعالى بعد تحرير الإنسان رقبته من الهوى والنفس والشيطان والسلطان، البذل بإطعام الطعام.

– صدق المحبة: يقول الله تعالى: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (الحشر: 9). كان الأنصار رضي الله عنهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم حاجة وخصاصة. لم يكن هذا البذل وهذا الإيثار إلا لوجود المحبة في قلوبهم لإخوانهم المهاجرين. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: فكانت المحبة حافزا للبذل… ولا بد للإسلام المنبعث أن تكون له حرارة حياة جديدة وباعث محبة جديدة يفصل بين الإنسان والمال ليبتذل ويُبذل) 3 .

وأخرج البزار عن جابر رضي الله عنه قال: “كانت الأنصار إذا جزّوا نخلهم قسم الرجل ثمره قسمين أحدهما أقل من الآخر ثم يجعلون السعف مع أقلهما ثم يخيرون المسلمين يأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السعف حتى فتحت خيبر، فقال رسول الله: وفيتم بالذي كان عليكم فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم فعلتم، قالوا: إنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن لنا الجنة قد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا قال: فذاكم لكم!”.

2- أنواع البذل

ما يمكن للإنسان المؤمن أن يبذله في سبيل الله وابتغاء مرضاته أرزاقا وعطاءات معنوية وأخرى مادية، واجبة وأخرى نافلة، منها ما يستدعيه الزمان والمكان ومنها دون ذلك. ونجد منها على سبيل المشهور والمذكور في القرآن والسنة والسيرة والتاريخ:

– بذل النفس: وهو أعظم البذل، يقول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. شيء خلقه الله واشتراه: النفس. وبذلها في سبيل الله وبيعها له نوعان: أحدهما بذل للنفس في ساحة الوغى دفعة واحدة فينال المؤمن بذلك عند الله درجة المجاهد الحائز على الشهادة. وهي بلا شك درجة عظيمة عند الله تعالى. وثانيهما بذل للنفس في رباط المجاهدة والتزكية وفي الدعوة السرية والجهرية، وفي الجهاد بناء للأمة والخلافة فينال المؤمن بذلك عند الله درجة الصديقية الحائز على الحضور الشاهد بالقسط.

– بذل المال: مرتبة ثانية مع بذل النفس. الناس جميعهم يبذلون، فمن الناس من يبذل دينه ابتغاء دنيا يصيبها أو رضا من الخلق يحوزه، ومن الناس من يبذل مما آتاه الله من الدنيا ابتغاء الدار الآخرة وطمعا في رضى مولاه عز وجل، يقول الله تعالى: وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا، عند بعض المفسرين: ولا تنسى نصيبك من الدنيا أن تجعله أيضا للآخرة.

وللمال في الإسلام استعمالان: أحدهما استعمال فردي وما أكثره بأن يبذل المؤمن ماله وينفقه على نفسه وعياله عونا على أمور الحياة وقضاء الحاجات، وعلى الأقارب والأصدقاء عطاء في المناسبات، وعلى المساكين مَدّا للعون بالصدقات. وثانيهما استعمال جماعي بأن يبذل المؤمن ماله اقتحاما لعقبة الشح المتأصل في النفوس، وهو له طهارة للنفس، وبرهان على صدق الانتماء، ومادة تعاون وبناء، ونصرة للدين والدعوة والأمة والمستضعفين في الأرض على حدّ سواء.

وحياة الصحابة رضي الله عنهم مرآة تعكس البيان القرآني والبلاغ النبوي في استعمال المال وبذله الاستعمال الجامع، وكثيرا ما كان الاستعمال الثاني هو الأرجح. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله. فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يُبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدُّنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا. قال: يا أبا بكر لا تبك، إنَّ أمَنَّ النَّاس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متَّخذًا خليلًا من أمتي، لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوَّة الإسلام ومودَّته، لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر” 4 .

وعن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطَّاب، يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، فوافق ذلك عندي مالًا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عنده، فقال: يا أبا بكرٍ ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيءٍ أبدًا” 5 .

– بذل الوقت: يقول الله تعالى: فإذا فرغت فانصب (الشرح: 8)، إذا فرغت من دنياك فانصب وتفرغ لآخرتك، استفرغ لها وقتا من وقتك، واغتنم فراغك قبل شغلك، تبذل وقتك في تعليم الناس الخير، في هداية رجل على يديك، في رباط في سبيل الله، في حراسة جند الله، تبذل وقتك في خدمة نفسك ما يجعلك الصورة المعبرة عن روح الإسلام، وفي خدمة أهلك الخدمة اللائقة تأسيا بخير الأنام، تبذل وقتك في المواساة والزيارات، في التواصل مع الكبار والصغار بحسن الكلام وحسن الإصغاء. قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري رحمه الله: “إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا”.

– بذل العلم: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” 6 . “إِن اللَّه وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ” 7 ، فإن كان بذل العلم فضيلة ينال بها العبد المؤمن الخيرية والصلوات فإن البخل به ومنعه مستحقيه جريمة يعاقب عليها الله تعالى. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من علمه الله علما فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة”. والأمر النبوي في بذل العلم وتبليغه واضح: “بلغوا عني ولو آية” 8 .

– بذل الجهد: أو الخدمة، ففي البلاغ النبوي أحاديث لا تُحصى في هذا الباب، منها: “وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له متاعه صدقة” 9 . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الناس أحب إلى الله، فقال: “أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي له دينا أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرا، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضى، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم تزل الأقدام” 10 . وما أحسن قول الشاعر:

فرضت علي زكاة ما ملكت يدي

وزكاة جاهي أن أعين وأرفدا

وعن أنس رضي الله عنه قال: “خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل، فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله شيئا (أي تخدمه وتنصره) آليت ألا أصحب أحدا منهم إلا خدمته” 11 . عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أيضا قَالَ: “دَخَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فَأَلْقَاهَا لَهُ، فَقَالَ سَلْمَانُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: حَدِّثْنَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَ سَلْمَانُ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فَأَلْقَاهَا إِلَيَّ، وَقَالَ: “يَا سَلْمَانُ، إِنَّهُ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ عَلَى أَخِيهِ فَيُلْقِي لَهُ وِسَادَةً إِكْرَامًا لَهُ إِلا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ”” 12 .

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في هذا الصدد: وهكذا جند الله في كل عصر يسارعون لخدمة الإسلام وخدمة من يخدم الإسلام. وقديما قد أتى الله النبوة يوشع بعد أن شرفه بخدمة رسوله موسى عليه السلام) 13 .

ويقول الله عز وجل يحذرنا من الاستهزاء بمن يبذل جهده في سبيل الله ويخدم من يخدم دين الله لأنه لم يجد ما ينفق من المال: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (التوبة: 79).

– بذل الخُلق: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق” 14 .

وبذل الخلق عطاء تطوعي وإيتاء للمال والخدمة لوجه الله وفتوة وإيثار وأخلاق كبار 15 .

يقول الله تعالى في شأن حسن الخلق: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران: 134)، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تبسمك في وجه أخيك صدقة لك، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلالة لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة” 16 . وعنه أيضا رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق” 17 .

خاتمــة

كانت خصلة البذل في حياة الصحابة ثابتة ثبوت خصال الإيمان الأخرى وشعبه، لم تفارق حركتهم الدعوية والجهادية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ومن بعده مع خلفائه الراشدين، يبذلون الغالي والنفيس والوحي يتنزّل ليزكّي ذلك ويبارك، والله يعجب ويفرح لما يفعله المؤمنون المتقون في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته. كل ذلك التفاني في البذل إنما جاءهم من حافز يقينهم في وعد الله وموعوده، ومن حافز غيرتهم على دين الله تعالى، ومن حافز محبتهم لرسوله والذين معه. فكان البذل متجليا واضحا بكل أبعاده التربوية لاقتحام عقبة الشح، والتنظيمية لاقتحام عقبة الظلم الاجتماعي، والجهادية لاقتحام عقبة ضَعف العدة والعدد.


[1] عبد السلام ياسين رحمه الله، الإحسان ج1، ص: 512.\
[2] عبد السلام ياسين رحمة الله عليه، الإسلام غدا، ص: 238.\
[3] الإسلام غدا، ص: 284.\
[4] رواه البخاري ومسلم رحمهما الله.\
[5] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.\
[6] رواه الإمام البخاري رحمه الله عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.\
[7] رواه الترمذي رحمه الله وصححه الألباني رحمه الله.\
[8] رواه الشيخان.\
[9] رواه الشيخان.\
[10] رواه الأصبهاني في الترغيب وابن أبي الدنيا وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.\
[11] رواه الإمام مسلم رحمه الله.\
[12] رواه الإمام الطبراني في مكارم الأخلاق.\
[13] عبد السلام ياسين رحمه الله، المنهاج النبوي، ص: 195.\
[14] رواه الإمام الطبراني في مكارم الأخلاق.\
[15] الإحسان ج1، ص: 472.\
[16] صحيح ابن حبان.\
[17] رواه الإمام مسلم رحمه الله.\