التصنيف الدولي للتعليم العالي بالمغرب.. الداء أصدق أنباء من الخطب

Cover Image for  التصنيف الدولي للتعليم العالي بالمغرب.. الداء أصدق أنباء من الخطب
نشر بتاريخ

وضعت مؤسسة “إنسايدر مانكي” الأمريكية التي تتخصص في مجال التصنيف والتحليل، المغرب في مرتبة 154 في مؤشر التعليم العالمي من أصل 199 دولة باعتماد معايير ترتيب الجامعات المغربية في التصنيفات الدولية، والنصيب العام للفرد من إنفاق الدولة على التعليم. وإسهاما في نقاش المسألة أعيد نشر مضمون حوار عام (وبشكل مركز على الأعطاب البنيوية) كان قد أجراه معي موقع جماعة العدل والإحسان في أكتوبر من العام 2018، وهي السنة التي عرفت إذّاك صدور عدد من التقارير الدولية التي تخبرنا بتصنيف الجامعات المغربية في ذيل قوائم جامعات العالم، بل وخروجها من التصنيف أحيانا، وذلك لعمري إنما يؤكد أن الداء في جامعاتنا وبيل، والعطب في بحثنا العلمي قديم.

التصنيف الجامعي: المعنى والمعايير

يقصد بتصنيف الجامعات عملية ترتيب لعدد من الجامعات والمعاهد العليا، ويكون بشكل تنازلي من الأعلى إلى الأدنى، يتم فيها ترتيب الجامعات اعتمادا على معايير معينة بغاية تقييم الأداء العام للجامعة، وتقديم تغذية راجعة للقائمين عليها من أجل تطوير وظائف الجامعة في نشر العلم والمعرفة والإسهام في التنمية.

تتوالى التقارير الدولية منذ سنوات عديدة على تكرار تصنيف الجامعات المغربية في مراتب تجعلها حقا في قاع التصنيف الدولي للجامعات العالمية، ويكفي للاطلاع على ذلك الرجوع إلى مواقع من مثل:

·    https://www.topuniversities.com/university-rankings/world-university-rankings/2019.

·    (http://www.webometrics.info/en/aw/Morocco).

·    http://www.shanghairanking.com/ARWU2018Candidates.html.

إن الحديث عن مدى مصداقية هذه التصنيفات والتقويمات الدولية للمنظومات التربوية عموما مشروع، فلقد يبدي البعض حذرا وتحفظات بسبب السياقات والتوظيفات التي يمكن أن تحيط بهذه التقويمات، لكن يبقى أن مصدر هذه التصنيفات عموما تكون من مؤسسات ذات وضعية اعتبارية دولية، وذات صيت علمي، وتعتمد معايير ومؤشرات يضعها خبراء دوليون. وإلا سنشكك في كل ما تصدره الأمم المتحدة والبنك الدولي والمراكز البحثية والصحف العالمية التي تشتغل بمهنية واحترافية عاليتين. والمغرب على كل حال يشارك في هذه التقويمات بل ويطلب رأي هذه المؤسسات وينصت جيدا إن لم نقل ينفذ بنجابة توصيات بعضها وتعليماتها.

وكيف ما كان موقفنا من صدقية ونجاعة هذه التصنيفات، فإن أمامنا الواقع الذي لا يرتفع والذي تقره الدولة ومؤسساتها رسميا والذي يقول: إن واقع جامعاتنا بإمكانياتها وظروفها وطرائق تكوينها واشتغالها وتأطيرها ونتائج مخرجاتها لا يمكن إلا أن تحتل وبامتياز ولا فخر هذه المراتب المتدنية. مع الإشارة إلى أن هناك من يرى أن التصنيفات الجامعية تنحاز أكثر إلى العلوم الدقيقة وإلى معايير جوائز نوبل وميدالية فيلدز في الرياضيات وتغفل العلوم الإنسانية، ولعلنا لم نفلح نحن كبير إفلاح لا في هذه ولا في تلك.

هناك تصنيفات كثيرة على المستوى العالمي تعتمد معايير متعددة؛ منها تصنيف التايمز المعروف اختصارا ب THE QS (Quacquarelli Symonds) الذي انطلق 2004 ويركز على تغطية مجالات البحث العلمي، والقابلية للتوظيف، والكفاءة التعليمية، وهو الذي يفرز تصنيفه المعروف“TopUniversity” ، ويعتمد في ذلك على السمعة الأكاديمية، ونسبة الاقتباس من البحوث، ونسبة المدرسين إلى عدد الطلبة، ونسبة المدرسين الأجانب والطلبة الأجانب، ويعطي لكل مؤشر نسبة مئوية مناسبة.

التصنيف الثاني هو تصنيف شنغاي الصينية (ARWU) وهو منتشر ومشهور، ابتدأ منذ 2003. ويعتمد معايير تهم جودة التعليم بناء على الحصول على جوائز نوبل وميدالية فيلدز سواء بالنسبة للخريجين أو لهيئة التدريس، ومعيار الاستشهاد بالأبحاث في مجالات علمية متنوعة، ومعيار النشر في مجلتي الطبيعة والعلوم، وعدد المباحث في فهرس كشافات الاقتباسات العلمية الموسعة وكشاف العلوم الاجتماعية، ومعيار حجم الجامعة.

أما التصنيف الذي يصدره موقع ويبوميتريكس، فهو ينطلق من قياس أداء 6000 جامعة اعتمدا على نشاطها من خلال مواقعها الإلكترونية؛ اعتمدا على حجم الموقع وخرجات البحث والأثر أي رؤية الرابط.

اعتمدا على هذه المعايير بمؤشراتها تلك، سنجد عندنا ضعفا شديدا في النشر العلمي في المجالات الدولية المحكمة، ونقصا في الأطاريح الجامعية المتميزة ومشاريع البحث ذات القيمة المضافة، وضعفا في عدد براءات الاختراع المسجلة، وكذا غيابا لتجميع مكونات التعليم العالي، وغيابا للانسجام بين مختلف البنيات الهيكلية للبحث العلمي، وترديا في التجهيزات وبنى الاستقبال للطلبة، وأيضا عدم إيلاء الخبرات الوطنية والطاقات العلمية اهتماما على مستوى التحفيز والتأطير ووسائل العمل بما يُمكّن الأطر الموجودة من الاشتغال العلمي باحتراف بسبب غياب رؤية استراتيجية لمجال البحث العلمي، ناهيك أنه ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة أن العديد من الجامعيين لا يمارسون البحث بتاتا، بل ومنهم من لم يكتب أي منشور منذ حصوله على الدكتوراه. وهناك هدر للطاقات التي تم توظيفها بعيدا عن تخصصاتها الدقيقة، وعليه فواقع البحث العلمي وظروف التأطير الجامعي يكشفان أننا لم نحقق شيئا كبيرا في جميع المؤشرات الدولية المعتمدة مهما كان موقفنا منها. مما يجعل حديث البعض عن الجودة دعوى تحتاج إلى برهان.

الجامعة المغربية: الأعطاب والمسؤولية

أعطاب الجامعة المغربية كثيرة جدا وهي نفسها في الجوهر أعطاب مختلف مستويات الأسلاك التعليمية. والمسؤول عنها هو المسؤول عن التردي العام الذي نحياه في المجتمع كله: النظام الحاكم وسياساته الاستبدادية وما ترتب عن ذلك من إفشال مخطط له مدبر له لكل مشروع إصلاحي حقيقي نادى به الفاعلون منذ بدايات ولادة الإصلاحات المتناسلة للتعليم بالمغرب.

لا ننسى أن الجامعة كانت المكان المزعج للنظام الحاكم بما كانت تنتجه من نخب متشبعة بالفكر الحر، والعلم الباني للإرادة. فلا عجب أن تخضع لعمليات ترويض تاريخية قوية لتسلك في سلك إعادة إنتاج القوالب المخرجة للمواطن المستلب المستقيل. طبعا تتحمل النخب العلمية والثقافية المستقيلة هي الأخرى مسؤوليتها في تردي وضع الجامعات خاصة المنشغلة منها بمكاسب وغنائم المنصب، المتصارعة بسبب الحزبية الضيقة والولاءات السياسية. الطلبة يتحملون جزءا من المسؤولية أيضا بسبب التشرذم والانقسام والاحترابات الإيديولوجية، الأساتذة الجامعيون أيضا. الكل له نصيب من المسؤولية، إلا أن المسؤولية العظمى التي أنتجت هذه الكوارث كلها وأوصلت هؤلاء المتدخلين جميعا إلى ما أوصلتهم إليه تبقى للنظام الحاكم، الذي لم تكن لديه أبدا النية والإرادة في إصلاح جدي وتغييري حقيقي لقطاع التعليم وللجامعة إلا بالقدر الذي يحافظ به على مشروعه التحكمي الضبطي.

تكمن أعطاب الجامعة -ودعنا نقولها بلسان التقارير الوطنية نفسها أي تقارير المؤسسات الرسمية نفسها حتى لا نتهم بالتجني والتحيز- في:

–       لم يتم بلوغ عتبة 1% من الناتج الداخلي الخام التي حددها الميثاق في جانب البحث العلمي.

–       عدم إعادة هيكلة التعليم العالي لتجميع مكونات ما بعد البكالوريا حسب ما أوصى به الميثاق.

–       ارتفاع ظواهر الانقطاع والتسرب والهدر إذ لوحظ أن نسبة مغادرة الطلبة للجامعة من دون حصول على شهادة جامعية بلغت (64 %).

–       العجز الكبير جدا في ربح رهان ربط البحث العلمي بالأهداف التنموية نتيجة ضعف التأطير والتكوين وعدم ملاءمة الشواهد المحصل عليها للمطلوب من سوق الشغل.

–       عدم الحسم في الاختيار اللغوي وما يسببه من تنافر بين اللغة المدرسة في الثانوي واللغة في الجامعات.

–       ازدواجية أنظمة الاستقبال بين ذات الاستقطاب المحدود والمفتوح وتفشي النظرة السلبية لمؤسسات التعليم ذات الاستقطاب المفتوح.

–       ضعف المردودية الداخلية لسلك الدكتوراه مقارنة مع مجموع الطلبة الباحثين.

هذه الأعطاب ليست سوى غيض من فيض. ويمكن مراجعتها بسهولة في مظانها المتعددة من التقارير الصادرة داخليا وخارجيا.

وإن هذا التدني مرتبط بأزمة المنظومة التعليمية في شموليتها؛ فلا يمكننا بأي حال من الأحوال عزل أزمة الجامعة عن أزمة التعليم، وهذه لا يمكن مقاربتها مقاربة كلية وعلمية دون ربطها بالأزمة العامة للمجتمع. فليست قضية التعليم، والجامعة جزء منها، بالجزيرة المعزولة التي يمكن تصور إصلاح يؤتي أكله دون تغيير جذري لبنيات المجتمع ولأحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية. نرسم على الماء إن توهمنا إمكانية للإقلاع المجدي لقطاع التعليم إن نحن عزلناه عن الإقلاع المجتمعي العام الذي يتطلب إصلاحا عميقا لمختلف مناحيه.

الجامعة وسؤال الإصلاح

إنه من اللازم التمييز في أزمة المنظومة التربوية بين الجوهر وبين الأعراض، فالأعراض الكثيرة المتعددة الكاشفة عن مجموعة من الاختلالات في التخطيط والتسيير والتدبير والتأطير والتمويل والبرامج والمناهج والبنيات إنما هي الجزء الظاهر المخفي للسرطان المتفشي في أوصال القطاع والكامن في تحكم الاستبداد في القرار التربوي، وفي رهن هذا الأخير لإملاءات المؤسسات الدولية المانحة، وفي غياب مشروع مجتمعي صريح وواضح ومسؤول متوافق عليه بمشاركة الكل تحت عين الشعب يخبرنا عن المواطن الذي نريد وعن المدرسة التي نروم وعن المستقبل الذي ننشد.

ولو كانت المجهودات التي تبذل في الاتجاه الصحيح لجاز الإنكار على من يرى الأعطاب دون الإيجابيات، أما والواقع صريح في بوحه بالنتائج الكارثية يوما بعد يوم وعاما بعد عام وإصلاحا بعد إصلاح، فالتساؤل عن السر -الذي يجعل كل مخرجات ما سمي بمجهودات الإصلاح تذهب هباء بما يحصل منها في النهاية من ضحالة في التكوين وترد في المكتسبات، وهدر للطاقات، وتضييع للمال، وتأخر في مراتب التصنيف الوطنية والعالمية- هو تساؤل مشروع. وهو تساؤل يقود إلى البحث في مدى جدية المشاريع المختلفة التي عرفها إصلاح الجامعة المغربية، ومدى سلامة الإجراءات التدبيرية التي حولت الطلبة إلى حقل للتجارب متنوع متناقض متضارب. وإلا ما الذي يجعل جامعاتنا مؤسسات لإنتاج العنف، وتفريخ البطالة، وتبديد المال العام؟

إن الذي ينقص جامعتنا عموما هو الذي ينقص تعليمنا كلية؛ الإرادة السياسية لتعليم الشعب لا لتدجينهم وتنميطهم وفق قوالب محددة لإنتاج المواطن الصالح للنظام، ومع الإرادة السياسية بناء رؤية واضحة لمشروع الجامعة المغربية يكون أصيلا ومتطورا، ثم حكامة رشيدة جامعة لمختلف بنيات التعليم الجامعي بتسيير جيد وتدبير أجود، فبنية استقبال ملائمة للاستجابة للطلب المتزايد على الجامعة مع اعتناء قوي بالجانب الاجتماعي إيواء وإطعاما ونقلا وتطبيبا وأنشطة ثقافية وتربوية، ثم اصطفاء للنجباء والنبهاء والاعتناء بذوي التميز العالي توجيها وتأطيرا، دون نسيان توظيف الطاقات الكثيرة الحاصلة على الدكتوراه الموجودة في الثانويات وفي المؤسسات لضمان تأطير جيد، أيضا تكوين جيد علمي وعملي للجمع بين المعرفة الأكاديمية المحيّنة وبين التطبيق المهاري المؤهل للاندماج في الحياة،  ولا ننس ضرورة سوق شغل مؤهل قادر على توفير عمل قار مدر للدخل مسهم في التنمية، وكذا إنفاق واسع على البحث العلمي منفتح على التكنولوجيا مستجيب للحاجيات الحقيقية والمستقبلية. ومع هذا كله وبعده وأثناءه توطين وتحديث وتطوير للتقانة واستفادة من الحكمة البشرية ومواءمة مستديمة مع حاجاتنا وفق دراسة تشخيصية علمية عقلانية.