الخصال العشر (2): الذكر

Cover Image for الخصال العشر (2): الذكر
نشر بتاريخ

مقدمة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (سورة الرعد، آية 28).

إن القلوب المثقلة بذنوبها لن تحقق الطمأنينة والسكينة دون أن تسعى إلى التطهر لمعالجة دائها، وترياق دوائها هو ذكر الله والتفكر في آلائه ومناجاته، لعلها تستمطر رحمته وتصادف ساعة استجابة للمستغفرين والمذنبين المقصرين، وساعة قبول عند الله سبحانه وتعالى وفوز برضوانه في الدنيا والآخرة. كما أن ذكر الله قوت قلوب العارفين وحياة أرواحهم، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: “الذِّكر منشور الولاية الذي من أُعطِيَه اتصل، ومن مُنِعَهُ عُزِل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطّلت عنه صارت بوراً، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطَّاع الطَّريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسّبب الواصل؛ والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب”.

إن السلوك إلى الله سبحانه وتعالى هو غاية الذاكرين، والطريق لمعرفة الحق تتطلب اتباع المنهاج النبوي المنير لتربية القلوب قبل إرشاد العقول، حتى تتدرج في شعب الإيمان وتسير نحو معارج الإحسان في سلم الخصال العشر، الذي يشكل فيه الذكر الخصلة الثانية بعد الصحبة والجماعة.

الذكر تربية

قال الله عز وجل في محكم كتابه الحكيم: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (سورة الأحزاب، آية 21).

إن مكانة الذكر عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فهو يرفع الذاكر إلى مقام التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إن تحقق بالذكر رجاء الله تعالى برجاء مغفرته، ورجاء الآخرة بطلب وجهه الكريم. و”في كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة، والذكر عبودية القلب واللسان، وهي غير مؤقتة. بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم على كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم. فكما أن الجنة قيعانٌ وهو غراسها، فكذلك القلوب بورٌ خراب وهو عمارتها وأساسها. وهو جلاء القلوب ودواؤها إذا غشيها اعتلالها، وكلما زاد الذاكر في الذكر استغراقا، زاد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا (…)” (1).

وعلاقة الذاكر بمحبوبه تقوى وتشتد، ودوامها لا يكون إلا باتخاذ ورد يومي يكون صلة وصل وحبل نجاة وشعاع أمل يتعلق به كل ذاكر محب. ويزداد الذاكر قربا كلما ازداد الورد، حتى يكون حصنا منيعا وحبلا متينا  يتشبث به ليوصله إلى درجات القرب والوصل.

يقول أحد العارفين بالله تعالى: (من لا ورد له لا وارد له)، والورد هو دوام الذكر والعبادة بمقدار معلوم وتكرارها يوميا، وهو ما يضمن للذاكرين الله كثيرا و الذاكرات المتهجدين  واردا من الإيمان والورع والتقوى يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوبهم لتزداد طمأنينة وقربا من خالقها.

الذكر تنظيما

يقول الإمام عبد السلام ياسين: “الذكر ليس فقط مناجاة في الضمائر، وكلمات على اللسان، وشعائر ظاهرة يعظمها المؤمن. بل الذكر الوقوف بين يدي الله صفا في الصلاة، يتقدم إليه جند الله لأداء مراسيم العبودية، ثم إشاعة حاكمية الله في علاقات جند الله مع الله، وفي علاقاتهم استعدادا لتطبيق شريعته يوم يؤول الحكم إلى المؤمنين، في كل مجالات الحكم، والسياسة، والاقتصاد، وشكل المجتمع، والعدل فيه، والثقافة، والجهاد كله” (2).

ولاء جند الله تعالى لله سبحانه، فهم يطلبون وجهه، ويتبعون سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، ويتخذون كتاب الله دستورا متبعا، ويجاهدون في سبيل إعلاء كلمة الحق. واستعدادهم لبذل حياتهم في سبيل الله تعالى دليل صدق إيمانهم.

وولاء المومنين لله تعالى يحقق لهم النصر والتمكين في الأرض، وهو يتناقض مع كل ولاء عرقي أو قومي متعصب ومفرق، يشتت جهود المومنين ويزرع الخلافات بينهم، لذا يجب أن تظل آيات الله وسنة نبيه المصطفى شرعا يحتكم إليه كل المسلمون حتى تقوم الدولة الإسلامية على شريعة الإسلام العادلة  .

شعب الخصلة

لا إله إلا الله

إنها كلمة الحق والكلمة الطيبة التي تجمع الشعوب والقبائل للتآلف والتعارف والقيام بأمر الله تعالى، هي أم الشعب، وكلمة الإخلاص، والشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

وهذه الكلمة الطيبة هي أصل وحقيقة الإيمان، المجددة له والمقوية لأصوله، والإكثار من قولها  شفاء للصدور ودواء وهدى ورحمة للموقنين .

الصلاة

إن روح الصلاة هي الخشوع فيها وهذا لا يتأتى إلا بصحبة الصالحين الخاشعين.

وبجد المؤمن واجتهاده للخشوع في صلاته يزداد إيمانه، وبتلبية النداء عند سماع الأذان ينتقل المسلم من النفس والرفقة الغافلة إلى الصحبة الذاكرة.

النوافل

يكون التقرب إلى الله تعالى بالفرض أولا ثم بالنفل بعد إتمام الفرض أركانا وخشوعا، وبالإضافة إلى ضرورة المحافظة على السنن والرواتب لا بأس من المواظبة على صلاة الاستخارة والحاجة.. لطلب الرشد في الأمر،  فعليه سبحانه وتعالى الاعتماد والافتقار.

تلاوة القرآن

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، ويتَدَارسُونَه بيْنَهُم، إِلاَّ نَزَلتْ علَيهم السَّكِينَة، وغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَة، وَحَفَّتْهُم الملائِكَةُ، وذَكَرهُمْ اللَّه فيِمنْ عِنده) (رواه مسلم وأبو داوود وغيرهما) .

الذكر وأثره

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ) (رواه البخاري ومسلم ).

إن ذكر الله فيه إحياء للقلوب في زمن الغفلة والفتنة، وهو شفاء للقلوب؛ يزيل عنها الغشاوة ويقربها لربها زلفى.

مجالس الإيمان

هي مجالس الذكر الجماعية الإيمانية؛ التي تتباهى بها الملائكة وتغشاها الرحمة ويذكرها الله في ملإ عنده.

التأسي بأذكاره صلى الله عليه وسلم وبدعواته  

وذلك بحفظ جوامع الذكر النبوية، والأذكار الواردة عقب الصلوات، وفي كل المناسبات والأوقات .

الدعاء وآدابه

يقول الله عز وجل في محكم كتابه: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (سورة الفرقان، آية 77).

إن مقام العبد هو التذلل بين يدي الله عز وجل، وإظهار الافتقار إليه، ودعائه بمسكنة وتباكي، تضرعا إليه وطلبا للاستجابة دون استعجالها. ودعوة المؤمن لأخيه عن ظهر الغيب مستجابة، لذلك أوصى بها السلف الصالح.

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم 

روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا).

والصلاة على نبينا المصطفى مفتاح خير وصلة وصل به صلى الله عليه وسلم، فكلما أكثرنا منها كانت صحبتنا له ومحبتنا أكبر، نهتدي بها إلى ذكر الله ومحبته لنا .

التوبة والاستغفار

أول الإقبال على الله تعالى توبة نصوح بعد رد المظالم إلى أهلها وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاستغفار في الأسحار، عسى أن يكتبنا الله تعالى من التائبين ويجعلنا من المستغفرين المقبولين عنده.

الخوف والرجاء

الغلو في الخوف ينحدر بنا نحو اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، والغلو في الرجاء يدفعنا للتهاون والتقصير في أمر الله تعالى، والمجتهدون  في عبادة ربهم يدعونه خوفا ورجاء، فهم لا يأمنون عذابه ولكن يرجون مغفرته ورحمته، ويصحبون أعمالهم الصالحة بالاستغفار والدعاء.

ذكر الموت

الدنيا قنطرة ودار ابتلاء، والكيس من يعمل فيها موقنا بالحساب والجزاء يوم البعث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (زر القبور تذكر بها الآخرة، واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة، وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك، فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة) (رواه الحاكم وصححه، وتابعه الذهبي).

خاتمة

قال الإمام الشافعي رحمه الله يناجي ربه ويذكره:

قَلبي بِرَحمَتِكَ اللَهُمَّ ذو أنس ** في السِرِّ وَالجَهرِ وَالإِصباحِ وَالغَلَسِ
ما تَقَلَّبتُ مِن نَومي وَفي سِنَتي ** إِلّا وَذِكرُكَ بَينَ النّفسِ وَالنَّفَسِ
لَقَد مَنَنتَ عَلى قَلبي بِمَعرِفَةٍ ** بِأَنَّكَ اللَهُ ذو الآلاءِ وَالقُدسِ
وَقَد أَتَيتُ ذُنوباً أَنتَ تَعلَمُها ** وَلَم تَكُن فاضِحي فيها بِفِعلِ مَسي
فَامنُن عَلَيَّ بِذِكرِ الصالِحينَ وَلا ** تَجعَل عَلَيَّ إِذاً في الدينِ مِن لَبَسِ
وَكُن مَعي طولَ دُنيايَ وَآخِرَتي ** وَيَومَ حَشري بِما أَنزَلتَ في عَبَسِ


(1) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص 223، ط 2018/1.

(2) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص 155، ط 1989/1.