الذرية الطيبة

Cover Image for الذرية الطيبة
نشر بتاريخ

وهب الله لعباده من أنواع النعم الخير الكثير، من أجلها وأجملها ما يحصل به الأنس والسرور ويزيد الحياة الدنيا حسنا وزينة، وتقر به الأعين، إنها نعمة الذرية الطيبة بنين وبنات، فقد سأل نبي الله سيدنا زكرياء عليه السلام على كبر سنه  ربه قائلا هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّآءُ رَبَّهُۥۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِے مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةٗ طَيِّبَةً اِنَّكَ سَمِيعُ اُ۬لدُّعَآءِۖ كما جاء في سورة آل عمران 38.

سأل نبي الله زكرياء الله سبحانه الذرية الطيبة من لدنه أي من عنده، إضافة العندية إلى اللَّه تعالى ليكون الدعاء أبلغ وأعظم؛ لأنّ هديّة الكريم عظيمة وجليلة تليق بمقام العظيم الكريم.

ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً: في تقييد الذرية بالطيّبة إشارة مهمّة أنّ العبد لا يسأل اللَّه تعالى الذرية فقط، فلا بدّ أن يقيّدها بالصلاح والطيب التي يُرجى منها الخير في الدنيا والآخرة، فالذُّرِّيَّة الطيّبة، هي الطيّبة في أصلها، وأقوالها، وأفعالها. 1

والذرية هي النسل، وهو لفظ يعبر به على الواحد، والجمع، والذكر والأنثى، والمراد منه هنا: الولد الواحد، والولد خلق الله لكنه عمل الإنسان يصلح إن أصلحه ويفسد إن أفسده إلا أن هذه النعمة وهذه الزينة لا تكتمل إلا بصلاح الأبناء واستقامتهم على الدين وحسن الخلق وأدب الإسلام. يقول الإمام ابن القيم فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً.

والولد يحتاج إلى من يسهر على تربيته ورعايته وأول من يقوم بذلك أمه، أي  زوجة صالحة تسر في حضور أهل بيتها، وتحفظهم في غيابهم.

ومن أوجب واجبات الولد اختيار أمه وأبيه ليكون تقيا نقيا، صالحا مصلحا. وقد حدد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم معايير اختيار الرجل لزوجته والمرأة لزوجها.  

لكن قد يقول قائل ولماذا الزواج وتحمل المسؤوليات دنيا وآخرة ألم يقل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل رَاعٍ في أهله ومسؤول عن رَعِيَّتِهِ”، مالي وكثرة التبعات هذه زوجة، وهؤلاء أولاد وهذا بيت… فمالي والمسؤوليات والحساب والوقوف أمام الله أحفظت أم ضيعت؟

لكن في المقابل ألم تعلم أن هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو من قال “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة” 2 يريد الإكثار من الصالح من الأولاد من الذي يدعو لك الدعوة الصالحة التي تحتاجها يوم القيامة، الأولاد الأبرار أقوياء الإيمان، المطيعون لربهم ذوو الأخلاق الحسنة ولبلوغ هذا المقصد لا بد من معين. من الناس من يطلب من ناس آخرين من يتحمل المسؤولية معه في ذلك وهذا ليس هو الموضع الصحيح، فالصحيح هو أن تطلب الشيء في موضعه؛ أي صاحبة الدين والخلق الحسن وصاحبة المنبت الجيد والأصل الطيب. وأحسن ما تسترشد به هو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الصحيح “تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك” 3. هذا الحديث يبين الطريقة الصحيحة لاختيار الزوجة الصالحة فركز على ذات الدين لأن اختيار ذات الدين تترتب عليه سعادة الدنيا والآخرة والفوز بما عند الله. يقول الله عز وجل في سورة البقرة ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم (البقرة 221). أما بالنسبة للمرأة هي الأخرى كما سبق الذكر، لها في اختيار من يكون لها معينا على دينها ودنياها في قوله صلى الله عليه وسلم “إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض” 4.

لماذا ذات الدين؟ ولماذا صاحب الخلق الحسن والدين؟ ليعلم كل منهما أن الله سبحانه ما خلقهما في هذه الدنيا عبثا وإنما جعل لكل منهما وظيفته، الواحد مكمل للآخر ولا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر يتعاونان لبناء بناء شاهق متين يحمل همَّ الأمة يكمل ما بدأ بناءه السابقون. فجعل للمرأة مهمة الحافظية وهي أن تحفظ نفسها وأن تحفظ بيتها وأولادها ومال زوجها، وبهذا تكون قد حفظت النفس والمال والدين وللرجل القوامة وهي صيانة زوجته وجلب المصالح إليها ودرء المفاسد عنها والنفقة عليها، «ولذلك الزوجة ولو كانت موظفة أو ذات مال، فهي إن ساعدت زوجها جزاها الله خيرا وهذا من باب المكارمة والإحسان بينهما، لكن الرجل هو المطالب بالنفقة شرعا” 5، وقد جمع القرآن الكريم بين وظيفتي الرجل والمرأة في هذه الآية من سورة النساء اِ۬لرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَي اَ۬لنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اَ۬للَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَيٰ بَعْضٖ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنَ اَمْوَٰلِهِمْۖ فَالصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اَ۬للَّهُۖ“34.

 هكذا يكون ارتباطهما ارباط محبة في الله وطاعة لله وتناصحا، ويكون تكاملهما تكامل تعاون لبناء بناءٍ جميلٍ ثابتِ الأركان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حاملا اللواء سائرا على منهاج النبوة، ألا وهو الولد الصالح الذي يدعو لوالديه،  يقول رسول الله عليه وسلم “إنَّ اللهَ ليرفعُ الدرجةَ للعبدِ الصالحِ في الجنةِ فيقولُ يا ربِّ من أينَ لي هذا فيقولُ باستغفارِ ولدِكَ لكَ” 6.

 بهذا الزواج نعيد للأسرة مجدها نعيد لها بناءها بناء متماسكا، أصحابها كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وهذا مقصد من مقاصد الإسلام أساسه قائم على المودة والرحمة والاستقرار، يقول عز من قائل وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ (الروم 21).

ركيزتان أساسيتان هما المودة والرحمة تقوم عليهما الأسرة لتكون حصنا منيعا أمام رياح الفتن ومعاول الهدم، من أجل ذلك تشد الزوجة عضُدَ زوجها وإن اقتضى الأمر تنازلها عن بعض حقوقها تكرما منها، ويعترف الرجل من جانبه بفضلها فيسابقها إلى الإحسان.

فاللهم احفظ أسرنا من الفتن وأبناءنا من الضياع وارزقهم العفة.

والحمد لله رب العالمين.


[1] تفسير سورة آل عمران للعلامة محمد بن عثيمين 232/1.
[2] أحمد والطبري المحدث الألباني وإسناده صحيح.
[3] رواه أبو هريرة في صحيح مسلم أخرجه البخاري.
[4] رواه الترمذي عن أبي هريرة وحسنه الألباني
[5] د.عبد العلي مسؤول  حوار مع الشاهد نشر بتاريخ 13 دجنبر 2023
[6] الراوي أبو هريرة  المحدث الشوكاني في فتح القدير.