الرحلة إلى الدار الآخرة: الحج

Cover Image for الرحلة إلى الدار الآخرة: الحج
نشر بتاريخ

الحمد لله كثيرا، حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين، في كل وقت وحين، صلاة تجعلنا من المنتفعين، وعلى حوضه من الواردين، وإلى وجه ربنا ناظرين.

من فضل الله وكرمه وإحسانه أن تتوالى علينا الليالي والأيام الفاضلات، فبعد رمضان أكرمنا بست من شوال، وها هو الحنان المنان ذو العطايا بلا امتنان يمن علينا بقرب ليالي العشر من ذي الحجة، التي أقسم بها في محكم كتابه وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، ليال ليست كسائر الليالي.

أخبرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن سر قسم الباري سبحانه بهذه الليالي، فقال فيما رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “ما من أيام العمل الصالح فيها خير من هذه الأيام”، أي في هذه الأيام التابعة لليالي العشر.

أيام وليال اجتمعت فيها أركان الإسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج؛ فيا باغي الخير أقبل.

“وأذن في الناس بالحج”

إن فريضة الحج هي ركن من أركان الإسلام الخمسة ودعامة من دعائمه؛ وقد شرعه الله تعالى لمن استطاع إليه سبيلا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (آل عمران، 98)، وجعله موسما من مواسم الطاعات، يلتقي فيه المسلمون شعوبا وقبائل عبادا لله مفتقرين إليه ومستمطرين رحمته على صعيد أشرف بقاع الأرض، غايتهم واحدة ووجهتهم واحدة بقلوب متشوقة إلى المكان الأسمى والبقعة المباركة مكة المكرمة، أم القرى زادها الله تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة؛ ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معدودات وأيام معلومات.

يتقرب فيها المسلمون إلى مولاهم وخالقهم؛ فتصفو نفوسهم وتزكو أفئدتهم في ظلال النفحات الربانية الإلهية، وترفرف أرواحهم مع نسمات الأنس والقرب من مولاهم، فتعم الأخوة الإيمانية بينهم رغم اختلاف الأقطار وتباعد الديار.

فلماذا تتشوق القلوب إلى الكعبة المشرفة وتحن الأرواح إليها حنينا؟ يقول الله عز وجل وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (سورة الحج، 27) أي نادِ يا إبراهيم في الناس داعيا لهم للحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه.

ذكر أن سيدنا إبراهيم عليه السلام قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: نادِ وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على جبل أبي قبيس (جبل بمكة المكرمة) وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة: “لبيك اللهم لبيك” (1).

إنه أكرم الأكرمين أجاب دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (إبراهيم، 37). فكل من أجاب النداء “لبيك اللهم لبيك” أتى من كل فج عميق (من كل طريق بعيد). فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية بيت الله الحرام والطواف حوله والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة وسائر أركان الحج. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم” (رواه البزار بسند حسن عن جابر بن عبد الله).

“لبيك اللهم لبيك”

اركب معنا بسم الله مجراها ومرساها على سفينة النجاة المتوجهة رحلتها إلى أم القرى، إلى مكة المكرمة أطهر بقاع الأرض بمسقط رأس النبي المصطفى خير خلق الله عليه أفضل وأزكى الصلاة والسلام وكفى.

لنعظم النية ونجدد العزم وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ (الحج، 32)، وهل يزهد في هذه الرحلة زاهد ويرضى أن يضيع هذه الفوائد؟ نقصد البيت مع الأحباب، ركاب تلو الركاب، بقلوب مشتاقة لبيت رب الأرباب، وإلى طيبة مرقد حب الأحباب. عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحنا بالتعجل بالحج: “تعجلوا الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له” (رواه الإمام أحمد في مسنده).

لا ننسى أن الكعبة المشرفة بيت الله وقصدنا هو الله رب البيت، ولنعلم أن أول الحج الفهم ثم الشوق ثم العزم ثم قطع العلائق ثم إعداد الزاد ثم الخروج ثم الإحرام من الميقات ثم دخول مكة ثم آداء مناسك الحج، وفي كل واحدة من هذه المراحل تذكرة وعبرة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.

الفهم

فهم قيمة الحج في الدين، فقد أنعم الله على أمتنا بالحج الركن الخامس من أركان الإسلام، فهو عمل بالبدن فيه نصب وتعب وصبر ومصابرة واجتهاد ومجاهدة وإنفاق بالمال وحضور القلب والجوارح في جميع مراحل هذه الفريضة العظمى، وهو تجرد عن الأهل والمال والعشيرة والمسكن.

الشوق

ينبعث الشوق لزيارة بيت الله الحرام لأن الله شرفه بنسبه إليه وجعله مقصدا ومثابة لعباده وموطنا للتوبة والإنابة؛ فقاصده مشتاق إلى الله، راج رحمته، محب للقائه، طامع في النظر إلى وجهه الكريم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

العزم

فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ العزم على مفارقة الأهل والوطن والأصحاب وهجر الشهوات والملذات، ورد المظالم والتوبة النصوح وعدم الالتفات إلى ما ورائك لتكون متوجها بوجه قلبك إلى مولاك.

الزاد

واعلم أن زاد الآخرة التقوى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى (البقرة، 197)، ومن التقوى النفقة الحلال وطيب النفس والصبر والمصابرة وحضور القلب والجوارح، والتواضع وحسن الخلق وخفض الجناح للمومنين في جميع مراحل هذه الفريضة العظمى. قال الله تعالى: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (البقرة، 197) لتنال شرف الدخول في عباد الله الصالحين المصلحين المخلصين. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله في كتاب المنهاج النبوي: “فالحج اختبار وتقوية وتدريب لقدرة المؤمن على ضبط شهواته وجوارحه، أشد ما يكون الجسم تحملا  لمشقات التنقل، وأشد ما تكون النفس حرجا من الغربة والزحمة. والعمرة كذلك، إلا أنها أقل وطئا. إنها مدرسة الصبر. منهاج تربية. إخراج للمرء من عاداته وأنانيته وإلفه ورخاوته إلى التقيد بالشرع في الحركة والكلمة والخطرة، إلى التواضع والتخلق والتحمل.

الجسم في امتحان وشدة. فتضطرب النفس حين يضيق عليها في رفاهية مركبها. نقلة وانقلاب في العادات لتنقلع النفس عن أرض كسلها وعبثها وارتفاقها. وذكر الله هو الهدف و الزاد” (المنهاج النبوي، ص 395).

الخروج من البلد

تذكر خروجك من دار الدنيا إلى دار الآخرة وأنت لا تدري مآل أمرك ألجنة عرضها السماوات والأرض أم إلى جهنم خالدا فيها وبيس المصير. تودع الأهل والأحباب وأنت بين الخوف والرجاء، حين تقف بين يدي ربك الوهاب تسكب العبرات وتطلق الأنين والزفرات طامعا في القرب والرضى ورفيع الدرجات. وإن لم تصل وأدركتك المنية فقد وقع أجرك على الله وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (النساء، 100).

الإحرام والتلبية من الميقات

استحضر أيها المحرم عند لبس إحرامك لبس كفنك، وتجردك من المخيط ومن حولك وقوتك بعد موتك. وعند رفع صوتك بالتلبية أنك تستجيب لنداء الله على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام لما أذن للناس بالحج، وخروج الخلائق بعد نفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة؛ لمن الملك اليوم لله الواحد الغفار، فارجُ أن تكون مقبولا واخشَ أن يقال لك: لا لبيك ولا سعديك. روى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك زادك حلال وراحلتك حلال وحجك مأجور غير مأزور. وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك زادك حرام ونفقتك حرام وحجك غير مبرور”.

قال سفيان بن عينة: حج علي بن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلتة اصفر لونه ووقعت عليه الرعدة فلم يستطع أن يلبى، فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك. فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته، فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.

دخول مكة

وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.

رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا. هذا دعاؤك لرب الأرباب، اعترف وأقر له بأن البلد بلده والأمن أمنه، واسأله أن يؤمنك من عذابه يوم يبعث عباده، ويجعلك من أوليائه وأهل طاعته.

دخول المسجد الحرام

إذا وفدت على المسجد الحرام وأقبلت بقلبك فبادر بالسلام على رب السلام ذي الجلال والإكرام وأنت بلباس التقوى والإحرام، وتميز بسمتك ورفيع خلقك عن باقي الأنام، واعلم أن الذي أنت فيه منحة وإنعام من رب حنان منان ذو الجود والإكرام.

فالكعبة بيت الله عز وجل محج القلوب والأبدان وسكن الأرواح وملاذ التائهين وقبلة المنيبين وملتقى العارفين والصالحين، جعله الله مثابة للناس لينالوا الثواب الكبير ويرجعوا إليه بشوق. قال الله تعالى: “وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى”. أمر الله سيدنا إبراهيم عليه السلام بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود وأودع فيه من أسراره العظيمة، ويكفيه شرفا أن نسبه إليه وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (الحج، 26). وعند دخولك المسجد الحرام اسأل الله أن يزيده تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، ولكل من دخله صادقا منيبا.

فأما سر اشتياق الأرواح والقلوب إلى البيت الحرام ففيه أقوال:

1- يروى أنها دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، قال عبد الله بن عباس: تهوي إليهم أي تحن إليهم.

2- في كتاب الذر المنثور للسيوطي رحمه الله عن جابر الجزري: “جلس سلمان الفارسي وكعب الأحبار بفناء الكعبة فقال: إن الله تعالى أوحى إلى الكعبة إني منزل نورا وخالق بشرا يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه ويدفون إليك دفيف النسور”. ولذلك أصبحت الكعبة المشرفة مغناطيس الأرواح وملتقى المشتاقين والعشاق.

3- يوم الذر هو اليوم الذي أخرج فيه ربنا عز وجل من صلب سيدنا آدم عليه السلام ذريته كلها إلى آخر  إنسان سوف يولد. فنثر الله هذه الذرية كلها ونشرها ببطن نعمان، وهي عرفة، ووقفت كل الأرواح أمام مولاها فخاطبهم “ألست بربكم” فأجابوا جميعا: بلى شهدنا، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركون به شيئا. فكتب الله هذه الشهادة وهذا الإقرار في رق وأشهد بعضهم على بعض ثم ألقمه الحجر الأسود.

الطواف بالبيت

وعند الشروع في الطواف، استحضر عمل الملائكة المقربين الحافين من حول العرش والطائفين حوله يسحبون بحمده لايفترون، وتذكر أن طوافك ليس المقصود منه طواف الجسم، بل طواف القلب والجوارح، بذكر رب البيت وعفر جبهتك على أعتابه، وهو الذي يلجأ إليه الخائف والمظلوم والضعيف والمكلوم والحائر والمهموم. طُف بقلبك وجوارحك عسى أن يفتح لك الباب ويقربك قربة الأحباب فهو ذو الجود والكرم رب الأرباب.

استلام الحجر الأسود

ما أعظمه من حجر، أليس هو من ألقم الرق الذي كتب الله عليه شهادة ذرية بني آدم عليه السلام  لما أشهدهم قال الله تعالى: إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنۢ بَنِىٓ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُواْ بَلَىٰ ۛشَهِدْنَآ ۛأَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَٰفِلِينَ (الأعراف، 172)، فيشهد على كل من استلمه أو قبله أو  أشار إليه. ولذلك شرع الله لمن أراد الطواف أن يبدأ به، فهو يوم القيامة إما أن يشهد لك أو عليك. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما؛ ولسان ينطق به ويشهد لمن استلمه بحق” (رواه أحمد وابن ماجة والترمذي).

التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم

شرف وأي شرف أن تتعلق بأستار الكعبة؛ يهزك الشوق إلى مولاك فتسكب العبرات، فتتقلب نظراتك من هذا باك وهذا شاك وهذا يحن ويئن، كل في رحمته طامع ولنداء ربه سامع.

السعي بين الصفا والمروة

إذا وقفت على جبل الصفا فتذكر وقوف أهل الصفا والوفا، وكل من على نهجهم اقتفى. وابدأ بما بدأ به الله إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (البقرة، 158). أشغل لسانك وقلبك بالاستغفار والتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح، واسأل الله أن يلزم قلبك التقوى، فعلى قدر شوقك تعطى.

المبيت بمنى

يوم 8 ذي الحجة، ويسمى يوم التروية، توجه بقلبك وجوارحك إلى منى للمبيت بها، فهي سنة من سنن الحج، وتذكر وقوفك على باب العزيز الغفار وأنت تنتظر أن يفتح لك الباب، ويقربك المولى قربة الأحباب، ويدخلك في زمرة الذين يباهي بهم الملائكة يوم عرفة فتفوز بالعتق من النيران والرحمة والغفران. وليكن شغلك الإكثار من الاستغفار والتهليل والتسبيح والتكبير والتحميد والتلبية بالقلب واللسان، واللهج بالصلاة على طه الأمين صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين في كل وقت وحين.

الشوق الشوق يا أهل الذوق؛ فعلى قدر شوقك تعطى وعلى قدر تقواك تكرم، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. فالأجواء الربانية الروحانية العالية عليك أن تجدها في قلبك على الدوام، ترافقك على مدى الأيام في كل مكان وزمان.

الوقوف بعرفة (9 ذي الحجة)

الحج عرفة كما أخبرنا الصادق الأمين. فالله الله يا من شهد الوقفة يوم عرفة، فذاق حلاوة الرحمة مع الرجاء والخوف مع الأسف، وجدد التوبة وعقد العزم واتبع السلف. في هذا الموقف الرهيب وأنت واقف وقفة المفتقر إلى رحمة ربه، الراجي عفوه، يتكرم المولى عز وجل بعتق عباده من النيران، فيعرف العبد رحمة ربه ويتعرف عليها بعين اليقين. جمع غفير لبوا دعوة ربهم جاؤوا شعتا غبرا من كل فج عميق، منهم من غلب عليه الخوف فهو يرجو المغفرة وفي عفو الله يأمل، ومنهم من يئن ويحن ويقسم على ربه أن يفعل.. وكل يعبد ربه بحاله وأفعاله وأقواله. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة” (صحيح النسائي، 3003).

بشراك بشراك أيها الحاج بحجتك، بشراك بنيّتك، بشراك بمغفرة ربك، بشراك بتجديد عزمك وهمتك، بشراك الأنوار التي ملأت قلبك، فحافظ عليها واحذر ممن يطمع في سرقتك وسلبك.

في أعظم يوم في الدنيا والناس شعث غبر بإحرامهم وقمة تذللهم وانكسارهم تتنزل الرحمة والسكينة على ضيوف الرحمان، يهيئهم لأعظم وقفة في الآخرة والناس نافرون لله عز وجل، وهم يظنون أنهم هلكى، فيتجلى لهم ربهم فيغفر لهم جميعا إنه هو العزيز الغفار. في صحيح ابن حبان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يهبط الله عز وجل ملائكته إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، ويقول انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا ملبين من كل فج عميق وواد سحيق، يرجون رحمتي ومغفرتي. اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم ولو كانت مثل عدد الرمل أو كعدد القطر أو كزبد البحر”.

استجاب الله دعاءهم لأن الموقف مجمع الصالحين وملتقى العارفين ومجلس المحبين المحبوبين، والكل يأخذ  بيد أخيه ويدعو  لأمه وأبيه وجميع ما في قلبه يؤويه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أغيض منه في يوم عرفة”.

المبيت بمزدلفة

بعد غروب الشمس بعرفة توجه إلى المزدلفة بالسكينة والوقار، لا تفتر من التلبية والاستغفار وذكر العزيز الغفار، ولسان حالك يقول إياك أرغب وإياك أدعو فتقبل نسكي ووفقني، وارزقني من الخير أكثر مما أطلب.

يقول الله عز وجل: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (البقرة، 198).

ليلة مباركة تجمع شرف الزمان والمكان، تطرق بابه بالدعاء والسؤال وبحسن الظن به والابتهال.

يوم العيد (10 ذي الحجة)

ويسمى يوم النحر، وفيه يقوم الحاج برمي جمرة العقبة الكبرى، فاقصد به الانقياد للمولى عز وجل وأنت في منى ولسان حالك يقول: اللهم هذه منى فامنن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك. تتقدم مع وفد الرحمان للرجم ورمي الحصوات فارجم نفسك من سيء الأخلاق وقبيح الصفات والعادات، ومع كل رمية ترفع يد إرادتك مكبرا مع كل حصى، وألزم قلبك الأدب والخشوع واسأله كل ما تريد فإنه سبحانه فعال لما يريد. الله أكبر  الله أكبر  صادعين بالحق فيوافق الرمي النحر، فيالها من طاعة بالروح والجسد، ترمي وتذبح الهدي للواحد الأحد، ومعها المعاصي  وخبث النفس فتصبح لوامة مطمئنة لذكر الله الصمد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله وأفضل عنده من إراقة الدم”. ومع الحلق أو التقصير ارج الله أن تسقط بكل شعرة سيئة وتنبت مع كل شعرة أعمال صالحة.

“واذكروا الله في أيام معدودات”

فبعد يوم النحر تأتي أيام رمي الجمرات الوسطى والصغرى، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى كما قال ربنا عز وجل. فأنت في عبادة لا عادة، فالزم دوام الطلب، ودوام الوقوف على باب الواحد الأحد، بخشوع وتذلل وانكسار وأدب، لتكون دائم اليقظة متصلا بالله بلا فاصل.

ومسك الختام ما بشر به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هذه الأمة المرحومة والمنصورة بإذن الله بشارتين تخصان الحج المبرور فيما رواه البخاري: “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”. نعيم وأي نعيم من عند ربنا الغفور الرحيم. عن أبي هريرة رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي  الأعمال أفضل؟ قال: “إيمان بالله ورسوله” قيل: ثم ماذا؟ قال: “جهاد في سبيل الله” قيل: ثم ماذا؟ قال: “حج مبرور”.

اللهم يا رب البيت والحرم أوقفنا بين يديك ومنّ علينا بحج بيتك الحرام، وارزقنا صدق الذمة والهمة والهجرة إليك؛ فقراء إليك فاغننا بك عمن سواك، رحماك ورضاك يا من لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، تقبل منا واغفر لنا يا أرحم الراحمين.


(1) هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير. أوردها ابن جرير مطولة.