الزوجية سنة كونية

Cover Image for الزوجية سنة كونية
نشر بتاريخ

قال تعالى: وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة الذاريات: 49]، خالق الكون ومبدعه أعلم عباده العقلاء أن كل شيء في الكون محتكم إلى قانون الزوجية الذي ينبني على اجتماع جنسين من النوع نفسه لتحقيق التكامل والتكاثر وضمان الاستمرارية، فكل شيء في الوجود بكل مكوناته يسري عليه هذا القانون، وأي خلل يلحق هذا القانون في كل الموجودات يلزم عنه فساد وانقراض؛ إنسانا، حيوانا، نباتا…

وإذا كانت الموجودات خاضعة للقوانين الطبيعية التي خلق الله عليها كل نوع، فإن الإنسان باعتباره مكونا من مكونات هذا الوجود، جعل الله خلقه يتناغم مع الخلق الكوني كله ويخضع لنواميسه، وجعل بقاءه مستندا إلى اجتماع شطري النفس الإنسانية لتتحقق الوحدة النوعية.

وبما أن الإنسان فضله الله على كثير من خلقه تفضيلا، فقد اقتضت مشيئته تعالى أن يكون خليفة له في الأرض، أكرمه الله بالعقل، وأطلعه على الغيب ليدرك به ما لا يستطيع إدراكه بعقله، وضع له تشريعات تستجيب لنداء الفطرة وموجباتها، وتساعده على القيام بوظيفته الوجودية. وجعل هذا الاجتماع محكوما بعدة ضوابط، ولم يتركة خاضعا للأهواء والشهوات والغرائز، بل جعله ينبني على نظام شرعي دقيق مؤسس على أركان ثابتة وشروط ضامنة لتحقيق مصالح عليا تعود بالنفع ليس على الزوجين في ذاتهما فقط، بل تتعداهما لتلحق الأسرة، والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء.

الزواج وحفظ الزوجين

قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الأعراف: 189]. من دلالات حكم الله تعالى أن جعل الغاية من الميثاق بين الرجل والمرأة تحقيق السكينة والمودة والرحمة، وتحقيق الإشباع العاطفي القلبي والنفسي الذي تفتقر إليه كل نفس إنسانية بطرق شرعية، تكسبهما الإحصان والعفاف. قال الإمام عبد السلام ياسين: “منة عظمى وآية كبرى من مننه المشكورة وآياته المذكورة سكون شطر هذه النفس الإنسانية إلى الشطر المكمل. راحة واطمئنان وألفة واستئناس واستيطان. لولاه لكانت الحياة وحشة وغربة وقلقا. فالحمد لله رب العالمين، وله الحمد في الأولى والآخرة” 1. وقد جعل الله الرابطة بين الأزواج تنبني على مفهوم اللباس الذي يحمل في معناه أبعاد سامية تتجلى في الملازمة والستر والوقاية والدفء والتناسق والانسجام والحسن والجمال، قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187].

الزواج وحفظ الأسرة

من نتائج الرابطة الزوجية تكوين أسرة، ويتمتن الحبل الجامع بين الزوجين بالميثاق الغليظ بوجود نتاج الحرث الحلال، قرة الأعين، وفلذات الأكباد، لم يسمها الله تعالى أسرة وإنما تحدث عنها بلفظ الأهل وهو أدل في المعنى وأقرب إلى المقصود، لتمتد لمختلف العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الأفراد أبوة وبنوة وأخوة وعمومة وخؤولة، السند والمدد والعصبة.

في الأسرة تتوزع الأدوار بين الزوجين بحسب طبيعة كل منهما؛ فهيأ الله المرأة بالفطرة لتكون أما، وهيأ الرجل ليكون أبا. الأمومة وسام لا تستحقه إلا كل من أنجبت ورعت وتعهدت بالتربية والرعاية، وأحاطت بالمحبة والعناية. والأبوة وسام لا يستحقه إلا من علم أن قوامته في قيامه بشؤون رعيته، وأن درجته تكليف وحماية. والولد عمل صالح يصنع في ظل الاستقرار والطمأنينة، وتلبية كل حاجاته الفيزيولوجية والنفسية والروحية والتربوية والخلقية، الدينية والدنيوية. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].

الزواج وحفظ المجتمع

لا شك أن الأسرة هي وحدة مجتمعية، ومن ثم فهي نواته وقلبه الحي؛ إن استقرت أثمرت مجتمعا مستقرا، وإن تزعزعت أركانها واختلت دعائمها اهتز عرش المجتمع، وسقط كل أفراده. الأسرة المبنية على الرباط الشرعي الأخلاقي ضمان لمجتمع متين طيب الأعراق، لا تكاد تجد فيه فاحشة أو رذيلة، ولا نتاج فاحشة أو رذيلة، من أبناء لقطاء لا نسب لهم و لا راع ولا معيل، ولا نساء لا كرامة لهن ولا شرف ولا نصير، ولا رجال ليس لهم من الرجولة نصيب لا بالحد ولا بالوصف. أنى للفيف من الناس أن يصنع مجتمعا فبالأحرى صنع أمة.

الزواج وإمامة الأمة

التكثير من النسل مقصود شرعي من تشريع الزواج، قال صلى الله عليه وسلم: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم” [رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي]، وقال صلى الله عليه وسلم: “تكاثرو فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة”.

حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزواج الشرعي لتكثير سواد الأمة التي يتباهى بها أمام الأمم غدا يوم القيامة، ذلك التكثير النوعي القوي القادر على بناء خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا الأمة الغثاء التي تتداعى عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، أمة تعض على عقيدتها بالنواجذ، وتعد لأعدائها ما استطاعت من وسائل الدفاع على مقدساتها وهويتها الإسلامية، وتنفق من مخزونها الأخلاقي على الإنسانية جمعاء.

الزواج وحفظ الإنسانية

الحفاظ على النوع البشري فطرة إنسانية، ولا يمكن ذلك إلا في ظل ترابط بين رجل وامرأة بناء على قانون الزوجية، وكل إعراض عن هذا القانون يتعارض مع الحكمة الإلهية ومع الغاية التي خلق الله لها الإنسان بالأصل؛ وهي الاستخلاف في الأرض وإعمارها، فيؤدي ذلك إلى نشر الفساد في الأرض بعد أن هيأها الله لتكون صالحة لمقام الإنسان فيها، وكل شذوذ جنسي مغلف بغلاف الحرية الموهومة يهوي بصاحبه إلى ما دون الحيوانية، وتنتفي عنه صفات الإنسانية، فيكون مبعث كل الشرور والخبائث على البشرية.

خاتمة

ما من حكم وضعه الله تعالى إلا لحكمة تعود بالمصلحة على المكلف، ومن ثم فمقتضى الإيمان يستوجب أن يكون قصد المكلف موافقا لقصد الشارع من وضع الأحكام، فإذا كان الله قد شرع الزواج لتحقيق هذه المقاصد السامية الجالبة للنفع على الأزواج والأسرة والمجتمع والأمة والإنسانية، فينبغي لكل مقدم عليه أن يعرف أن الزواج بالأصل استجابة لأمر الله تعالى وطاعة له واتباع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإسهام في بناء العمران الأخوي، وتحقيق لمبدأ الاستخلاف في الأرض.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر- بيروت، ج 2، ص 69.